تنوير العينين بشرح حديث: «أذن لها بنفسين»
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وأصحابه...
أما بعد:
فهذه ورقات مختصرة جمعت فيه كلام أهل العلم حول حديث «نفس جهنم»، وإنما عملي هو الجمع فقط مع قراءة نصوصهم قراءة دقيقة بضبط ما أشكل، مع مراعاة قواعد الإملاء ليسهل فهمها -والفضل لله وحده- وذلك كالتالي: ذكرت أولا لفظ الحديث، ثم من أخرجه، ثم شواهده، ثم شرحه مع جواب الإشكالات.
لفظ الحديث
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I، عَنِ النَّبِيِّ O قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ».
وفي لفظ لمسلم: «إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الْحَارُّ فَأَبْرِدُوا…».
وفي لفظ آخر لمسلم: «قَالَتِ النَّارُ : رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا! فَأَذِّنْ لِي أَتَنَفَّسْ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ. وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ».
وفي لفظ للترمذي: «وَنَفَسًا فِي الصَّيْفِ، فَأَمَّا نَفَسُهَا فِي الشِّتَاءِ فَزَمْهَرِيرٌ، وَأَمَّا نَفَسُهَا فِي الصَّيْفِ فَسَمُومٌ».
وفي لفظ لأحمد([1]): «أَنَّ جَهَنَّمَ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فَنَفَّسَهَا فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ فَشِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ وَشِدَّةُ الْقَرِّ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا».
وفي لفظ للبزار([2]): «إِنَّ جَهَنَّمَ قَالَتْ : يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِي نَفَسَيْنِ ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَفِيضَ عَلَى خَلْقِكَ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ ؛ فَشِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِهَا، وَشِدَّةُ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا».
تخريج الحديث([3])
أخرجه البخاري في «صحيحه» (536، 3260)، ومسلم في «صحيحه» (615، 617)، ومالك في «الموطأ» (39 / 13)، والشافعي في «الأم» (1/ 91)، وفي «مسنده» (1/ 219 ترتيب سنجر) (133)، وابن الجارود في «المنتقى» (174)، وابن خزيمة في «صحيحه» (329)، وابن حبان في «صحيحه» (1504، 1506، 1507، 1510، 7466)، (كتاب إخباره O عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم بذكر أسمائهم M، ذكر السبب الذي من أجله يشتد الحر والقر في الفصلين)، والنسائي في «المجتبى» (499)، والسرَّاج في «مسنده» (ص 324) (1004)، وأبي عوانة في «مستخرجه» (3/ 272) (1064، 1068، 1069) ط الجامعة الإسلامية، والنسائي في «الكبرى» (1499، 1500، 1501، 11576)، وأبو داود في «سننه» (402)، والترمذي في «جامعه» (157، 2592) (أبواب صفة جهنم عن رسول الله O، باب ما جاء أن للنار نفسين وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد)، والدارمي في «مسنده» (1243، 2887، 2888) (كتاب الرقاق، باب فِي نفس جهنم)، وابن ماجه في «سننه» (677، 678، 4319)، والبيهقي في «سننه الكبير» (1/ 437)، وأحمد في «مسنده» (7251، 7366، 7367، 7591، 7728، 7837، 7944، 8338، 8703، 9022، 9228، 9248، 9315، 9459، 10093، 10094، 10655، 10687، 10742، 10956، 11672)، والطيالسي في «مسنده» (2421، 2473)، والحميدي في «مسنده» (971، 972)، وأبو يعلى في «مسنده» (5871، 6074، 6314)، والدارقطني في «علله» (9/ 394)، والبزار في «مسنده» (7632، 7633، 7634، 7691، 7897، 7917، 8190، 8213، 8243، 8753، 8856، 9022، 9033، 9249، 9293، 9342، 9789، 9920، 9967، 10041)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (2048، 2049، 2051، 3300، 3304، 35274)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1116، 1117، 1118، 1119، 1120، 1121، 1122، 1123)، والطبراني في «الأوسط» (957، 2785، 5237، 6043، 8026)، والطبراني في «الصغير» (384)، وفي «مسند الشاميين» (3038)، وأبو نعيم في «المسند المستخرج على صحيح مسلم» (2/ 214) (1379، 1380، 1381)، وأبو الحسن الأزدي في «حديث مالك بن أنس». وغيرهم كثير.
فهذا الحديث المروي عن أبي هريرة:
اختلف عليه:
فرواه عنه عطاء بن يسار الهلالي، وموسى بن يسار المطلبي، ومحمد بن سيرين، ويزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي، والحسن البصري، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير الغلابي، وذكوان السمان، وسلمان الأغر، وبسر بن سعيد المدني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي، وعبد الرحمن بن يعقوب الجهني عن أبي هريرة مرفوعًا، وعبد الله بن شقيق العقيلي عن أبي هريرة مرفوعًا حكمًا، وعطاء بن أبي رباح، زمعة بن صالح الجندي، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعمرو بن الحارث بن يعقوب، ومحمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، ومعمر بن راشد، وهشيم بن بشير.
واختلف على هؤلاء كالتالي:
اختلف على عطاء بن أبي رباح: فرواه ابن جريج، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعًا، وابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعًا حكمًا.
واختلف على زمعة بن صالح الجندي: فرواه أبو داود الطيالسي عن زمعة بن صالح الجندي عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وعن زمعة بن صالح الجندي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ورواه يزيد بن أبي حكيم الكناني عن زمعة بن صالح الجندي عن عبد الله بن طاووس عن طاوس بن كيسان عن أبي هريرة.
واختلف على عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي: فرواه محمد بن بشار بندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ورواه أبو موسى الزمن عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله بن عمر العمري عن خبيب بن عبد الرحمن الخزرجي عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبي هريرة.
واختلف على عمرو بن الحارث بن يعقوب: فرواه عبد الله بن وهب المصري عن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وعن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وعن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي عن سلمان الأغر عن أبي هريرة، وعن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة عن أبي هريرة، وعن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي عن بسر بن سعيد المدني عن أبي هريرة.
واختلف على محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة: فرواه الحسين بن محمد بن بهرام المروذي عن محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة عن عبد الرحمن بن سعد المقعد عن أبي هريرة، وعن محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة عن أبي الوليد مولى عمرو بن خراش عن أبي هريرة، ورواه يزيد بن هارون عن محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة عن أبي الوليد مولى عمرو بن خراش عن أبي هريرة، وعن محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة عن عبد الرحمن بن سعد مولى الأسود بن سفيان عن أبي هريرة.
واختلف على الزهري: فرواه أسامة بن زيد الليثي المدني، وزمعة بن صالح الجندي، وابن جريج، وعمرو بن الحارث بن يعقوب، والليث بن سعد، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد الأيلي عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وعن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ورواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ورواه شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. واختلف على ابن عيينة هنا: فرواه الحميدي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وعمرو بن محمد الناقد، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، وعبد الجبار بن العلاء، ومحمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وبشر بن مطر، وأحمد بن عبدة الضبي؛ عشرتهم عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به. قال ابن عيينة: «حفظناه من الزهري، عن سعيد بن المسيب…»، كذا في رواية ابن المديني عنه عند البخاري وغيره.
قال ابن رجب: «قولُ سفيان بنِ عُيَيْنَةَ: «حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ» يشير إلى أنَّه إِنَّمَا حفظه عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن ابن المسيِّب، لم يحفظْه عنه عن أبي سلَمة. وقد رُوِيَ عن ابنِ عُيَيْنةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سعيدٍ أو أبي سلَمة -بالشَّكِّ- ذكره الدَّارَقُطْنيُّ. ورُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن أبي سَلمة وحده عن أبي هريرة. قاله عنه شُعيبُ بن أبي حمزةَ. وقد خرَّجَ البخاريُّ في بدء الخلق مِنْ طَريقهِ بهذا الإسناد حديثَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا». ورواه جماعةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سعيدٍ وأبي سلمة معًا عن أبي هريرة. وقد خرَّجَ مسلمٌ حديثَ الإبراد مِنْ رِواية اللَّيْث ويونس وعمرو بن الحارث عَنِ الزُّهْرِيِّ عنهما. وخرَّجَ حديثَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ» مِنْ حَدِيثِ يونسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عن أبي سلَمة وحدَهُ. وروى حديثَ الإبراد (1418) عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سعيدٍ وأَبِي سَلَمَةَ (1419) معًا، ويحيى الأنصاريُّ (1420) وعبيدُ الله بن عمرَ وابنُ جُريجٍ وابنُ أَبي ذِئْبٍ ومَعْمَرٌ وغيرُهم. قَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: القولان محفوظانِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. يعني عن سعيدٍ وأَبِي سَلَمَةَ» اهـ.
ورواه عبيد الله بن سعيد بن يحيى اليشكري وهو حافظ مأمون، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، أو سعيد -أحدهما، أو كلاهما-، عن أبي هريرة. أخرجه أبو العباس السراج في مسنده (986). هكذا قال في هذه الرواية؛ شك في الراوي، وأوقفه على أبي هريرة.
- ورواه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة. ذكره الدارقطني في «العلل» (9/ 392). هكذا قرن بين سعيد وأبي سلمة.
والذي يظهر لي -والله أعلم بالصواب- أنه إما أن يكون المحفوظ عن ابن عيينة هو ما رواه عنه جماعة الحفاظ والأئمة من أصحابه المقدمين فيه، لا سيما الحميدي -راويته-، والشافعي، وأحمد، وابن المديني.
وإما أن يقال بأن ابن عيينة لما حدّث به الرجلين الآخرين اضطرب في الحديث، والأول أولى.
على أنَّ ابنَ عُيَيْنة لما روى هذا الحديث بهذا الإسناد وَهِم فيه، فجمع معه حديثًا آخر: وهو شكاية النار. أخرجه بتمامه أو بشقه الثاني فقط جمعٌ.
فالحديث الأول؛ حديث الإبراد: رواه الجماعة من أصحاب الزهري عنه، عن ابن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة. والحديث الثاني؛ «اشتكت النار إلى ربها»: يرويه يونس بن يزيد الأيلي، وشعيب بن أبي حمزة، ومعمر بن راشد، ثلاثتهم: عن الزهريّ، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن: أنه سمع أبا هريرة، فذكره مرفوعًا. ولم يقل فيه: «عن سعيد بن المسيب» إلا ابن عيينة، وتابعه: جعفر بن برقان، فرواه عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، بحديث: «اشتكت النار»، دون حديث الإبراد. ذكره الدارقطني في العلل (9/ 392). وجعفر بن برقان: وإن كان ثقة؛ إلا أنه ضعيف في الزهري خاصة كما في «التهذيب (1/ 301). فحديث: «اشتكت النار إلى ربها»: ليس من حديث ابن المسيب، وإنما هو من حديث أبي سلمة وحده، وأما حديث الإبراد فهو من حديثهما معًا.
فظر أنّ ابْنَ عُيَيْنَة يرويه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، وجمع في حديثه بين هذين المتنين: «إذا اشتد الحر فأدبروا بالصلاة …»، و«اشتكت النار إلى ربها…». أما عامة أصحاب الزهري؛ لا يروون الحديث عن الزهري هكذا، وإنما يروون المتن الأول منه فقط، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة. منهم من جمع بينهما، ومنهم من ذكر أبا سلمة وحده، ومنهم من قال: أحدهما أو كلاهما.
أما المتن الثاني فلم يروه أحد من أصحاب الزهري عن سعيد، وإنما رواه شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. إلا ما يروى عن جعفر بن برقان، حيث تابع ابن عيينة على رواية المتن الثاني، عن الزهري، عن سعيد، وجعفر بن برقان؛ في الزهري، ليس بشيء، فلا تنفع متابعته.
فظهر بهذا؛ مخالفة ابن عيينة لأصحاب الزهري؛ حيث حمل إسناد المتن الثاني على إسناد المتن الأول، وجعل المتنين من حديث سعيد؛ والأمر ليس كذلك؛ بل المتن الأول من حديث سعيد وأبي سلمة جميعًا، بَيْنَما الثاني من حديث أبي سلمة فقط.
والفضل في معرفة علّة هذه المتابعة يرجع -بعد الله عز وجل- إلى الإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله ورضوانه-، فقد قال -فيما حكاه عنه أبو طالب([4]): «سُفْيَانُ بْنُ عيينة في قلة ما روى نحو من خمسة عشر حديثًا، أخطأ فيها فِي أَحَادِيثِ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَ مِنْهَا: حَدِيثَ: «اشتكتِ النارُ إِلَى رَبِّهَا»؛ إِنَّمَا هُوَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ» اهـ. وهذا من شفوف نظر الإمام أحمد ودقة نقده، عليه V.
وقد سُئل الإمام الدارقطني([5])، عن حديث «الإبراد» خاصة، فذكر أوجه الخلاف فيه على الزهري، ثم قال: «والقولان محفوظان عن الزهري» اهـ. يعني: عن سعيد وأبي سلمة جميعًا.
وإنما يقصد الإمام الدارقطني بتصحيح القولين عن الزهري، أي: في حديث «الإبراد» خاصة؛ لأنه قال هذا في معرض الكلام عليه والسؤال عنه، دون حديث: «اشتكت النار»([6]).
قال الحافظ([7]): «قوله [أي: سفيان]: «حفظناه من الزهري»، في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني -شيخ المصنف- فيه بلفظ: «حدثنا الزهري»، قوله: «عن سعيد بن المسيب»، كذا رواه أكثر أصحاب سفيان عنه، ورواه أبو العباس السرّاج عن أبي قدامة عن سفيان عن الزهري عن سعيد أو أبي سلمة -أحدهما أو كلاهما-، ورواه أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن أبي سلمة وحده، والطريقان محفوظان، فقد رواه الليث وعمرو بن الحارث عند مسلم، ومعمر وابن جريج عند أحمد، وابن أخي الزهري وأسامة بن زيد عند السراج، ستتهم عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة» اهـ.
وصنيع الإمام البخاري في «الصحيح» يدل على ذلك أيضًا: فإنه خرّج حديث: «اشتكت النار» مع حديث: «الإبراد» من رواية ابن عيينة، من حديث سعيد في كتاب «المواقيت» في «باب الإبراد بالظهر في شدة الحر»، وذِكْر حديث «اشتكت النار» في هذا الباب ليس مقصودًا، وإنما خرّجه عرضًا؛ لأنَّ ابنَ عيينة هكذا جمع في روايته بين المتنين، والمقصود في هذا الباب إنما هو حديث «الإبراد» خاصة. بَيْنَما في كتاب «بدء الخلق» في «باب صفة النار» خرج حديث: «اشتكت النار» من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده؛ وهذا بابه. وفي هذا؛ إشارة إلى أن حديث: «اشتكت النار» ليس من حديث سعيد، بل من حديث أبي سلمة، وهو ما خرّجه في «المواقيت» من حديث «سعيد»، إلا لمجيئه مع حديث «الإبراد» في رواية سفيان بن عيينة. والله أعلم
ومما يؤكد هذا المعنى، وهو أن حديث: «اشتكت النار إلى ربها» من حديث أبي سلمة وحده، دون سعيد بن المسيب؛ هو أن الحديث مشهور عن أبي سلمة:
واختلف على معمر بن راشد:
فرواه عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن راشد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وعن معمر بن راشد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وعن معمر بن راشد عن همام بن منبه الصنعاني عن أبي هريرة.
واختلف على هشيم بن بشير:
فرواه أحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وزكريا بن يحيى زحمويه عن هشيم بن بشير عن هشام بن حسان العتكي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا، وسعيد بن منصور عن هشيم بن بشير عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن البصري مرسلًا.
وقد توبع الزهريّ على الشطر الثاني، ومن طرقه:
- روى مالك في الموطأ (28)، عن عبد الله بن يزيد -مولى الأسود بن سفيان-، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة: أن رسول الله O قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم». وذكر: «أن النار اشتكت إلى ربها، فأذن لها في كل عام بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف». أخرجه من طريق مالك: الجوهري في «الموطأ» (458)، ومسلم (617/ 186)، وأبو نعيم في «المستخرج» (2/ 214/ 1380)، وابن حبان (4/ 377/ 1510)، والشافعي في السنن (123)، وأحمد (2/ 462)، والطحاوي (1/ 187)، والبيهقي في «السنن» (1/ 437)، وفي «المعرفة» (1/ 455/ 609 و 610).
وأخرجه أيضًا من طريق يونس بن محمَّد المؤدب: أبو العباس السرّاج في «مسنده» (1002)، لكن اكتفى بشقه الثاني ولم يسق لفظه. وهذا إسناد صحيح.
- وروى يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله O قال: «قالت النار: رب كل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أوزمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور من نفس جهنم». أخرجه مسلم (617/ 187)، وأبو عوانة (1/ 290/ 1020 و 1021)، وأبو نعيم في «المستخرج» (2/ 215/ 1381).
- وروى محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله O: «اشتكت النار إلى ربها عز وجل، فقالت: أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين، فأشد ما تجدون من الحر من حرها، وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها». أخرجه هشام بن عمار في «حديثه» (99)، وأحمد (2/ 503)، وهناد في «الزهد» (240)، وأبو العباس السراج في «مسنده» (1014 و 1015)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/ 333). وهذا إسناد حسن.
وله طرق أخرى عن أبي هريرة منها ما رواه:
- الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله O: «اشتكت النار إلى ربها، وقالت: أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم». أخرجه الترمذي (2592)، وابن ماجه (4319)، وابن أبي شيبة (7/ 51/ 34137)، وابن أبي الدنيا في «صفة النار» (154)، وأبو العباس السراج في «مسنده» (1041)، وابن عبد البر (2/ 315). قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وقال الدارقطني في «العلل» (10/ 204/ 1973): «ورفعه صحيح».
- حجاج بن منهال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي O بنحوه. أخرجه الدارمي (2/ 438/ 2846)، والبزار (16/ 7/ 9022). وهذا إسناد صحيح.
- قال هناد في «الزهد» (241): حدثنا يعلى، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله O: … فذكره مثله. وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب: متروك، منكر الحديث، وأبوه: لا يعرف [انظر: التهذيب (4/ 375)] ويعلى: هو ابن عبيد بن أبي أمية الكوفي الطنافسي.
شواهد الحديث
شواهد الجملة الأولى منه:
وهي قوله O: «شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».
له شواهد من حديث أبي ذر الغفاري، وحديث أبي سعيد الخدري، وحديث أنس بن مالك، وحديث أبي موسى الأشعري، وحديث المغيرة بن شعبة، وحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، وحديث عبد الله بن مسعود، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب:
فأما حديث أبي ذر الغفاري، أخرجه البخاري في «صحيحه» (535، 539، 629، 3258)، ومسلم في «صحيحه» (616)، وغيرهما كثير، ولفظ البخاري: «قَالَ النَّبِيُّ O: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ».
وأما حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه البخاري في «صحيحه» (538، 3259)، وغيره كثير، ولفظه: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».
وأما حديث أنس بن مالك، أخرجه البخاري في «صحيحه» (906)، ولفظه: «كَانَ النَّبِيُّ O إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ».
وأما حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه النسائي في «المجتبى» (500)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3302)، والنسائي في «الكبرى» (1502)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1124)، ولفظ النسائي: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ؛ فَإِنَّ الَّذِي تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».
وأما حديث المغيرة بن شعبة، أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 133)، وابن ماجه في «سننه» (680)، وأحمد في «مسنده» (18472)، وابن حبان في «صحيحه» (1505، 1508)، والبيهقي في «سننه الكبير» (1/ 439)، وغيرهم كثير. ولفظ ابن ماجه: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ O صَلَاةَ الظُّهْرِ بِالْهَاجِرَةِ، فَقَالَ لَنَا : أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ». وسنده صحيح.
وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، أخرجه ابن ماجه في «سننه» (681)، وابن خزيمة في «صحيحه» (330)، والبزار في «مسنده» (5612)، ولفظ ابن خزيمة: «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوا الصَّلَاةَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ».
وأما حديث معاذ بن جبل، أخرجه أحمد في «مسنده» (22460)، والطبراني في «الكبير» (103)، والبزار في «مسنده» (2639) وعبد بن حميد في «المنتخب من مسنده» (122). ولفظ أحمد: «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ».
وأما حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد في «مسنده» (23589)، والطبراني في «الكبير» (3222، 9793)، وأبو يعلى في «مسنده» (5258)، ولفظ أحمد: «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ».
وأما حديث عمر بن الخطاب، أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (3303، 3307)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (1854)، والبزار في «مسنده» (280)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1131)، ولفظ ابن أبي شيبة: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».
شواهد الجملة الثانية منه:
وهي شكاية النار والإذن لها بنفسين:
أخرج مالك في «الموطأ» (38/ 24) (كتاب وقوت الصلاة، باب النهي عن الصلاة بالهاجرة)، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مرسلًا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ O قَالَ: «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ : اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ».
قال عنه ابن عبد البر([8]): «هذا الحديثُ يتصِلُ من وُجوهٍ كثيرةٍ ثابتةٍ… وقد رواه عن النبيِّ O جماعة من الصحابةِ؛ منهم: أبو ذرٍّ، وأبو موسى الأشعريِّ، وهو حديثٌ صحيحٌ مشهورٌ، فلا معنى لذكرِ الأسانيدِ فيه، إذ هو عندَ مالكٍ مُتَّصلٌ كما ذكَرنا، ومشهورٌ في المسانيدِ والمُصنفاتِ كما وصَفنا…» اهـ.
قال علي خان: وكل هذه الأحاديث التي ذكرها ابن عبد البر V ليست فيها الشاهد وهي شكاية النار.
سرد كلام أهل العلم حول الحديث
الخطابي (ت ٣٨٨ هـ)
قال الخطابي V([9]): «و«فَيحُ جهنم»: شدَّةُ استعارها، وأصلُه في الكلام السَّعة والانتشار، وكانت العربُ تقول في غاراتها: فيحي فياحِ. وقد رُوي: «أنَّ لِجَهنَّمَ نَفَسَين: نَفَسًا في الشتاء ونَفَسًا في الصِّيف». اهـ.
ابن عبد البر (ت ٤٦٣ هـ)
قال ابن عبد البر V ([10]): «وهو حديث عند أهل السنة والعلم بالحديث صحيح لا مقال فيه لأحد.
وأما قوله: «إن شدة الحر من فيح جهنم» فالفيح سطوع الحر في شدة القيظ، كذلك قال صاحب «العين» وغيره من أهل العلم بلسان العرب.
وأما إضافة ذلك إلى جهنم -أعاذنا الله منها- فمجاز لا حقيقة كما تقول العرب في الشمس إذا اشتد حرها: «هذه نار» تريد كالنار، وكذلك يقال: «فلان نار»، يريد أنه يفعل كفعل النار مجازًا واستعارةً. ومعلوم أنّ نار جهنم تفضل نار بني آدم سبعين جزءًا أو تسعة وستين جزءًا. وفي هذا ما يوضح لك أن ذلك مجاز أو لغة معروفة في لسان العرب ومن قال قولهم، ومنه: «أحرق الحزن قلبي»، و«أحرق فلان فؤادي بقوله كذا»، ومِن هذا المعنى قيل: «الحَرّ من فيح جهنم»، والله أعلم…
وأما قوله: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضًا»، فإنَّ أهل العلم اختلفوا في ذلك فحمله بعضهم على الحقيقة وحمله منهم جماعة على المجاز. فالذين حملوه على الحقيقة قالوا: أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، وفهم عنها كما فهم عن الأيدي والأرجل والجلود، وأخبر عن شهادتها ونُطْقِها، وعن النمل بقولها، وعن الجبال بتسبيحها. واحتجوا بقوله تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ [سبأ: 10]. أي سبحي معه، وبقوله: ﴿يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [ص: 18]، وبقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]، وبقوله: ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]، وبقوله: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: 12]، وبقوله: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11]. فلما كان مثل هذا -وهو في القرآن كثير- حملوا «بكاء السماء والأرض» و«انفطار السماء» و«انشقاق الأرض» و«هبوط الحجارة من خشية الله» كل ذلك وما كان مثله على الحقيقة وكذلك إرادة الجدار الانقضاض. واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من الحقيقة في ذلك بقوله تعالى: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ [الأنعام: 57]. وبقوله: ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ [ص: 84]. وأما الذين حملوا ذلك كله وما كان مثله على المجاز قالوا أما قوله: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾، ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: 8]، فهذا تعظيم من الله تعالى لشأنها.
قالوا: وقول النبي O: «اشتكت النار إلى ربها»، من باب قول عنترة:
… * وشكا إليَّ بِعَبْرةٍ وتَحمْحُمِ
وقول الآخر:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى * صَبْرٌ جميل فكلانا مبتلى
وكقول الحارثي:
يريدُ الرُّمحُ صدرَ أبي براءٍ * ويرغَبُ عن دماءِ بني عَقيلِ
وقال غيره:
رُبَّ قومٍ غبَروا من عيشِهم * في سرورٍ ونعيمٍ وغَدَقْ
سكَت الدَّهرُ زمانًا عنهمُ * ثم أبكاهُم دمًا حينَ نَطَقْ
وقال غيره:
وعَظَتكَ أجداثٌ صُمُتْ * ونعَتكَ أزمِنةٌ خُفُتْ
وتكلَّمت عن أوجه * تبلَى وعن صورٍ شُتُتْ
وأرتكَ قَبْرَكَ في القبـ * ـورِ وأنتَ حيٌّ لم تَمُتْ
وهذا كثير في أشعارهم وقد ذكرنا كثيرًا منها في «التمهيد».
وقالوا: هذا كله على المجاز والتمثيل، والمعنى في ذلك: أنها لو كانت ممن تنطق لكان نطقها هذا وفعلها. وذكروا قول حسان بن ثابت حيث يقول:
لوَ أنَّ اللُّؤمَ يُنسَبُ كان عبدًا * قبيحَ الوجهِ أعورَ من ثقيفِ
وسُئل أبو العباس أحمد بن يزيد النحوي، عن قول الملك: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [ص: 23]، وهم الملائكة لا أزواج لهم! فقال: «نحن طول النهار نفعل هذا، فنقول: ضرب زيد عمرًا، وإنّما هذا تقدير، كأنّ المعنى إذا وقع هذا فكيف الحكم فيه»؟ وذكروا قول عدي بن زيد العبادي للنّعمان بن المنذر: أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك؟! قال: وما تقول؟! قال: تقول:
رُبَّ ركبٍ قد أناخوا حَولَنا * يشرَبون الخمرَ بالماءِ الزُّلالِ
ثم أضحَوا لعبَ الدَّهرُ بهم * وكذاك الدَّهرُ حالًا بعد حالِ
وأَحسنُ ما قيل في معنى هذا الحديث، ما ورد عن الحسن البصري.
القول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب، والله أعلم.
وأحسن ما قيل في هذا المعنى، ما فسّره الحسن البصري، قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بَعْضًا فَخَفِّفْ عَنِّي قَالَ فَخَفَّفَ عَنْهَا وَجَعَلَ لَهَا كُلَّ عَامٍ نَفَسَيْنِ فَمَا كَانَ مِنْ بَرْدٍ يُهْلِكُ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا وَمَا كَانَ مِنْ سَمُومٍ يُهْلِكُ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ حَرِّهَا»، فقوله: «من زمهرير يهلك شيئًا، وحر يهلك شيئًا»، يفسّر ما أشكل من ذلك لكل ذي فهم.
ومعلوم أن نَفَسَها في الشتاء غير الشتاء، ونفسها في الصيف غير الصيف، لقوله: «نفس في الشتاء ونفس في الصيف».
وقول الحسن: «من زمهريرها وحرها» موجود في الأحاديث المسندة الصحاح… والله أعلم» اهـ.
وقال([11]): «هذا الحديثُ يتصِلُ من وُجوهٍ كثيرةٍ ثابتةٍ… رواه عن أبي هريرةَ جماعةٌ منهم: هَمَّامُ بن مُنبِّهِ([12])، وأبو صالحٍ السَّمَّانُ([13])، والأعرجُ([14])، وأبو سلمةَ، وسعيدُ بنُ المُسيِّبِ([15])، وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ([16])، وغيرُهم([17])، وقد رواه عن النبيِّ O جماعة من الصحابةِ؛ منهم: أبو ذرٍّ، وأبو موسى الأشعريِّ، وهو حديثٌ صحيحٌ مشهورٌ، فلا معنى لذكرِ الأسانيدِ فيه، إذ هو عندَ مالكٍ مُتَّصلٌ كما ذكَرنا، ومشهورٌ في المسانيدِ والمُصنفاتِ كما وصَفنا…
وأما قولُه: «فأذِن لها بنفَسينِ…». فيدُلُّ على أنَّ نفَسَها في الشِّتاء غيرُ الشِّتاء، ونفَسَها في الصيفِ غيرُ الصيفِ. وفي روايةِ جماعةٍ من الصحابةِ زيادةٌ في هذا الحديثِ، وذلك قولُه: «فما ترَونَ من شدَّةِ البردِ، فذلك من زَمْهريرِها، وما ترونَ من شدَّةِ الحرِّ، فهو من سَمُومِها». أو قال: «من حرِّها»([18]). وهذا أيضًا ليس على ظاهرِه، وقد فسَّره الحَسَنُ البَصْريُّ في روايته، فقال: «… فما كان من بردٍ يُهلِكُ شيئًا، فهو من زمهريرِها، وما كان من سَمُوم يُهلِكُ شيئًا فهو من حرِّها». وهذا تفسيرُ ما أشكَل مِن ذلك، واللهُ أعلمُ…
وأما قولُه في هذا الحديثِ: «اشتكَتِ النَّارُ إلى ربِّها، فقالت: ياربِّ، أكَل بعضي بعضًا» الحديث، فإن قومًا حمَلوه على الحقيقةِ، وأنها أنطَقها الذي أنطَق كلَّ شيءٍ. واحتجُّوا بقولِ الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور: 24] … وما كان من مثلِ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ. حمَلوا ذلك كلَّه على الحقيقة لا على المجاز…
وقال آخرون في قولِه b: …{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}: هذا تعظيمٌ لشأنِها، ومثلُ ذلك قولُه b: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، فأضاف إليه الإرادةَ مجازًا([19]). وجعَلوا ذلك من بابِ المجازِ والتَّمثيلِ في كلِّ ما تقدَّمَ ذكرُه، على معنى أنَّ هذه الأشياءَ لو كانت مما تنطِقُ أو تفعَلُ، لكان هذا نُطقَها وفعلَها. وذكَروا قولَ حسانَ بنِ ثابتٍ… وسُئلَ المبرِّدُ عن قولِ المَلَكِ… وذكروا قولَ عديِّ بنِ زيدٍ للنعمانِ… وقولَ عنترةَ …
وقال آخرُ:
فتكلَّمت تلك الدِّيارُ ولم تكُنْ * تلك الدِّيارُ تُكلِّمُ الزُّوَّارا
قالت برَغمي بأن أهلي كلُّهمْ * وبقيتُ تكسُوني الرِّياحُ غُبارا
ولو استطعتُ لما فُجِعتُ بساكني * والدَّهرُ لا يُبقِي لنا عُمَّارا
والشعرُ في هذا المعنى كثيرٌ جدًّا، ومعناه أنَّ الديارَ لو كانت ممَّن يصحُّ لها نُطقٌ وقالت، لكانَ هذا قولَها وكلامَها، وكذلك القُبورُ، لو كان لها قولٌ في الحقيقةِ لكان هكذا. ومثلُ هذا مما أنشَدوا في هذا قولُ القائلِ:
قد قالتِ الأنساعُ للبطنِ الْحَقِ * …
وقول الآخر:
امتلأ الحوضُ وقال قَطْنِي * …
وهو كثيرٌ، ومعناه كلُّه ما ذكَرناه. فمَن حمَل قولَ النارِ وشكواها على هذا، احتجَّ بما وصَفنا، ومن حمَل ذلك على الحقيقةِ، قال: جائزٌ أن يُنطِقها اللهُ كما تنطِق الأيدي والجُلودُ والأرجلُ يومَ القيامةِ. وهو الظاهرُ من قوله الله b في ق: 30، والإسراء: 44. والنمل: 18… {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، فأضاف إليها الرُّؤيةَ والتَّغيُّظَ إضافةً حقيقيةً. وكذلك كلُّ ما في القرآنِ مثلُ ذلك… والاحتجاجُ لكلا القولين يطولُ، وليس هذا موضعَ ذكرِه، وحملُ كلام الله تعالى وكلام نبيِّه O على الحقيقةِ أوْلى بذوي الدينِ والحقِّ؛ لأنه يقُصُّ الحقَّ، وقولُه الحقُّ، f عُلوًّا كبيرًا…
وأمَّا قولُه: «فيحِ جهنَّمَ»، فالفيحُ: سطوعُ الحرِّ، هكذا قال صاحبُ «العينِ». فكأنَّ المعنى واللهُ أعلمُ: شدَّةُ الحرِّ المُؤذِي من حرِّ جهنَّم ولهيبِها أجارنا اللهُ برحمتِه وعفوِه منها» اهـ.
الرافعي (ت ٥٠٥ هـ)
وقال الرافعي V([20]): «وقوله: «من فيح جهنم» أي: من قوّة حَرّها وانتشارها، وأصل الكلمة: السعة والانتشار، ومنه قولهم: مكان أفيح وامرأة فيحاء أي: واسعة، ويروى «من فوح جهنم» وهما بمعنى، وفوح الطيب: سطوع ريحه وانتشارها، والزمهرير: أشد البرد».
القاضي عياض (ت ٥٤٤ هـ)
وقال القاضي عياض V([21]): «قال الإمام [أي: المازري]: وقوله: «فإن شدة الحر من فيح جهنم»، قال الليث: الفيح: سطوع الحر، يقال: فاحت القِدر تفيح إذا غلت. وقوله: «من حر أو حرور» قال الهروي: «الحرور» استيقاد الحر ووهجه بالليل والنهار، فأما السموم فلا يكون إِلا بالنهار. قال القاضي: يُحتمل أنّ أحد اللفظين من الحر أو الحرور هو الذي قاله O، فشكّ الراوي في ذلك، ويحتمل أنّه كرّر اللفظَيْن؛ لأنَّ أحدَهما أكثر من الآخر، وتكون «أو» للتقسيم، وكذلك قوله: «ما وجدتم من برد أو زمهرير»، والزمهرير: شدة البرد، قيل: أخبر أنها إذا تنفست في الصيف قوَّى لهب تنفسها حر الشمس، وإذا تنفست في الشتاء قوَّى نفسها شدَّة البرد إلى الأرض، فهو الزمهرير.
واختلف في معنى قوله: «اشتكت النار إلى ربها …» الحديث، وقوله: «فإن شدة الحر من فيح جهنم»:
فحمله بعضهم على ظاهره، وقال: شكواها حقيقة أنّ شدة الحر من وهج جهنم حقيقة على ما جاء في الحديث، وأن الله أذن لها بنَفَسَين؛ نفسٍ في الصيف، ونفس في الشتاء، وذكر أنه أشد ما يوجد من الحر والبرد.
وقيل: إنه كلام خرج مخرج التشبيه والتقريب، أي: كأنّه [أي: الصيف] نار جهنم في الحرِّ، فاحذروه واجتنبوا ضرره، كما قال:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى * …
وهذا يسمى التعبير بلسان الحال، وكلا الوجهين ظاهر، والأول أظهر، وحمْلُه على الحقيقة أولى، لا سيَّما على قول أهل السنة بأنَّ النَّار موجودة مخلوقة الآن، فاللّه قادر على خلق الحياة، بجزء منها حتى تتكلّم، أو يكون يُتكلم على لسانها خازنها أو من شاء الله عنها، أو يخلق لها كلامًا يسمعه من شاء من خلقه» اهـ.
وقال([22]): ««من فيح جهم» بِفَتْح الْفَاء أَي من انتشار حرهَا وقوتها، وَمِنْه قَوْله: «صَعِيد أفيح» فِي الحَدِيث الآخر، أَي: متسع، وَقَوله: «وَاد أفيح» أَي: متسع، وَقد روى أَبُو دَاوُود الحَدِيث وَفِيه «فوح» وهما بِمَعْنى، وَمِنْه: «فوح الطّيب» وَهُوَ سطوع رِيحه وانتشاره…» اهـ.
ابن الأثير (ت ٦٠٦ هـ)
وقال ابن الأثير V([23]): ««اشتد»: افتعل من الشدة: القوة، أي: إذا قوي الحر، وأصل «اشتد»: اشتدد، فسكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية.
و«الإبراد»: من البرد، تقول منه: أبرد الرجل إذا فعل فعلًا، وقد انكسر الحر وضعفت شدته. قال الأزهري: يقول الركب في السفر: إذا زاغت الشمس فقد أبردتم، فَروّحُوا، و«أبرد القوم» إذا صاروا في آخر القَيْظ. والإبراد في الصلاة: هو تأخير صلاة الظهر عن أولها في شدة الحر إلى أن ينكسر الحر قليلًا… و«الفَيْح»: سطوع شدة الحر وانتشاره، وأصله من كلامهم السعة والانتشار، ومنه قولهم: مكان أفيح، فجعل شدة الحر من فيح جهنم، ولذلك أردفه بقوله: «اشتكت النار إلى ربها». و«الزمهرير»: شدة البرد، والميم أصلية.
ويجوز أن يكون قد أخرج الكلام مخرج التشبيه، أي كأنه من نار جهنم.
والوجْهُ، الأول.
و«الصيف والشتاء»: معروفان، والذي كان عند العرب في تقسيم السنة أنهم كانوا يجعلون كل ثلاثة أشهر منها قسمًا:
فقسم منها هو عندهم الربيع، والذي يسميه الناس الخريف، لأن الثمار تخترف فيه أي تجتني؛ وأوله عند حلول الشمس في أول برج الميزان، وذلك نصف أيلول، وآخره عند خروج الشمس من برج القوس، وذلك نصف كانون الأول، وله من المنازل العقرب، والزبان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة.
والقسم الثاني: هو الشتاء، وأوله عند حلول الشمس أول برج الجدي، وذلك نصف كانون الأول، وآخره عند خروجها من برج الحوت وذلك نصف آذار، وله من المنازل سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية وفرع الدلو المقدم، وفرع الدلو المؤخر، والرشا.
والقسم الثالث: الصيف وهو عند الناس الربيع، وأوله عند حلول الشمس في برج الحمل في نصف آذار، وآخره عند خروج الشمس من برج الجوزاء، وذلك نصف حزيران وله من المنازل، السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع.
والقسم الرابع: القيظ وهو عند الناس الصيف، وأوله عند حلول الشمس في برج السرطان، في نصف حزيران وآخره عند خروجها من برج السنبلة؛ في نصف أيلول وله من المنازل: النثرة والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك.
ومنهم من يقسم السنة أربعة أقسام أخرى: الأول: أيلول، وتشرين، وتشرين([24]). والثاني: كانون، وكانون([25])، وشباط. والثالث: آذار، ونيسان، وأيار. والرابع: حزيران، وتموز، وآب. وكأن هذه القسمة أقرب إلى الاعتدال، وتلك أقرب إلى قسمة البروج ومسير الشمس. ومنهم من قسم السنة قسمين: الصيف، الشتاء، فجعل الصيف ستة أشهر أولها نيسان وآخرها آذار، والذي أراد به النبي O من الصيف؛ فإنما هو القيظ لأنه هو الزمان الذي يستحب فيه الإبراد…
وفي قوله: «اشتكت النار إلى ربها» مسألة أصولية هل هذه الشكوى حقيقية بكلام أم هي مجاز عبَّر فيه بلسان الحال عن لسان المقال؟ …
لأنَّ الكلام عند المحققين من الأصوليين وأهل السنة؛ ليس من شرطه وشرط العلم في القيام بالجسم؛ إلا الحياة. فأما الهيئة والبنية واللسان، فليس من شرطه، فإذا خلق اللَّه في النار حياة؛ وُجِدَ منها الكلام الذي هو الكلام الحقيقي، ولو قلنا: إنه الكلام العرفي الذي هو الأصوات والحروف، لكان خلق اللَّه لها لسانًا تنطق به، ألا ترى أنه قد جعل لها عينين، قال النبي O: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ بين عَيْنَيْ جهنم مقعدًا»، قالوا يا رسول اللَّه! أو لجهنم عينان؟! قال أَوَمَا سمعتم إلى قول اللَّه b: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}»([26]). وإن قلنا إنه مجاز عن لسان الحال، فالأمر فيه ظاهر.
وقوله: «فأذن له بنَفَسين» إشارة إلى أنَّها مُطْبَقة محاط عليها بجسم مكتنفها من جميع نواحيها؛ لم يتصور باضطرامها أن تتنفس، وكانت الحكمة في التنفس عنها، إعلام الخلق بأنموذج منها.
وأما قوله في البرد: «إنه من بردها»، والنار لا توصف بالبرد، فلأنّ مذاب الأجسام إما أنْ يكون حارًّا أو باردًا، فلما جمع اللَّه نوعَيْ العذاب المُعِدّ للأجسام، عبّر بأحدهما عن الآخر وأطلق عليه مجازًا واتساعًا، كقولهم: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر» اهـ.
القُرْطُبيّ (ت ٦٥٦ هـ)
وقال أبو العباس أحمد القرطبي V([27]): «و«فيح جهنم»: شدة حرها وشدة غليانها. يقال: فاحت القدر، تَفِيح: إذا هاجت وغلت. والنَفَس: التنَفُّس. فإذا تنفّستْ في الصيف قوَّى لهيبُها حرَّ الشمس، فزاد حرها وتضاعف، وإذا تنفّستْ في البرد دفع حرُّها شدةَ البرد إلى الأرض، وهو الزمهرير الذي ذكره.
واختُلف في معنى هذا الحديث؛ فمن العلماء من حمله على ظاهره، وقال: هو لسان مقال محقق، وشكوى محققة، وتنفس محقق؛ إذ هو إخبار من الصادق بأمر جائز، فلا يُحتاج إلى تأويله.
وقيل: إن هذا الحديث خرج مخرج التشبيه والتقريب؛ أي: كأنّه نار جهنم في الحر، وقد تكون هذه الشكوى وهذه المقالة لسان حال…
والأول أولى؛ لأنه حمل اللفظ على حقيقته، ولا إِحالة في شيء من ذلك» اهـ.
وقال([28]): «و«الفَيْح»: شدَّة حرِّ النَّار، وكذلك اللَّفْح. و«اشْتَكَتِ النَّارُ»: أي: خَزَنَتُها، ويحتمل أن يكون مِن باب: شكى إليَّ جملي طُولَ السُّرى. و«الزَّمْهَرِير»: شدَّة البَرْد» اهـ.
وقال البيضاوي (ت ٦٨٥ هـ)([29]): «وقوله: «فإن شدة الحر من فيح جهنم» أي: من ثوران حرها، وسطوعها: علة للأمر … «واشتكاء النار من أكل بعضها بعضًا» مجازٌ عن كثرتها وغليانها وازدحام أجزائها، بحيث يضيق عنها مكانها، فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر، والاستيلاء على مكانها، و«نَفَسها» لهبها وخروج ما يبرز منها، مأخوذ من نفس الحيوان، وهو الهواء الدخاني الذي تخرجه القوة الحيوانية ويبقى منه حوالي القلب، وقوله: «أشد ما تجدون من الحر» خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشد. وتحقيقه: أن أحوال هذا العالم عكس أمور ذاك العالم وآثارها، فكما جعل مستطابات الأشياء وما يستلذّ به الإنسان في الدنيا أشباه نعائم الجنان ومن جنس ما أعد لهم فيها، ليكونوا أميلَ إليها وأرغبَ فيها، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: 25]، جعل الشدائد المؤلمة والأشياء المؤذية أُنْموذجًا لأحوال الجحيم وما يعذّب به الكفرة والعصاة، ليزيد خوفهم وانزجارهم عمَّا يوصلهم إليه، فما يوجد من السموم المهلكة فمن حَرِّها، وما يوجد من الصراصر المجمدة فمن زمهريرها، وهو طبقة من طبقات الجحيم، ويحتمل هذا الكلام وجوه أخر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالحقائقَ».
النووي (ت ٦٧٦ هـ)
وقال النووي V -بعد أن نقل قول القاضي عياض السابق-([30]): «قُلْتُ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ» اهـ.
البيضاوي (ت ٦٨٥ هـ)
وقال القاضي البيضاوي V([31]): «واشتِكاءُ النار مِن أَكلِ بعضِها بعضًا»: مجاز عن كثرتها وغليانها وازدحام أجزائها، بحيث يضيق عنها مكانها، فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر، والاستيلاء على مكانها. و«نَفَسُها»: لهبها وخروج ما يبرز منها، مأخوذ من: «نَفَس الحيوان»، وهو الهواء الدُّخاني الذي تخرجه القوّة الحيوانيّة، ويبقى منه حوالي القلب. وقوله: «أشد ما تجدون من الحر»: خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشدّ.
وتحقيقه: أنّ أحوال هذا العالم عكس أمور ذاك العالم وآثارها، فكما جعل مستطابات الأشياء وما يستلذ به الإنسان في الدنيا أشباه نعائم الجنان، ومِن جِنس ما أعدّ لهم فيها، ليكونوا أَمْيَلَ إليها وأرغبَ فيها، ويشهد لذلك قولُه تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: 25]، جعل الشدائد المؤلمة والأشياء المؤْذِيَّة نموذجًا لأحوال الجحيم وما يعذّب به الكفرة والعصاة، ليزيد خوفهم وانزجارهم عما يوصلهم إليه، فما يوجد من السموم المُهْلِكة فَمِن حرها، وما يوجد من الصراصر المجمدة فمن زمهريرها، وهو طبقة من طبقات الجحيم، ويحتمل هذا الكلام وجوهًا أُخر، والله سبحانه وتعالى أعلم بالحقائق» اهـ.
المُظْهِري (ت ٧٢٧ هـ)
وقال الزَّيْداني المُظْهِري V([32]): «قوله: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضًا»؛ أي: أكل بعضي بعضًا من غاية الحرارة، «فأذِنَ لها بنفسين» نفخَتْ نَفَسًا في الصيف، ونَفَسًا في الشتاء، وهذا شيء إيماني يجب الإيمان به، وإن لم يُعرف كيفيته. قوله: «أشد ما تجدون من الحر»؛ يعني: أشدُّ ما تجدون من حرِّ الصيف، فهو من حرِّ جهنم. «وأشد ما تجدون من الزمهرير»؛ يعني: أشدُّ ما تجدون من برد الشتاء، فهو من برد جهنم، «الزمهرير»: البرد الشديد. فإن قيل: إذا نفست جهنم في الصيف نَفَسًا وفي الشتاء نَفَسًا، لمَ يختلف حرُّ الصيف وبرد الشتاء، وفي بعض الأيام يكون الحرُّ أشد من بعض، وكذا البرد؟ قلنا: لعل الله تعالى يأمر بأن تحفظ الحرارة الحاصلة من نَفَسِ جهنم في موضع، ثم ترسل إلى أهل الأرض قليلًا قليلًا، حتى يعتادوا بالحرارة حينًا بعد حين، وحتى لا تحترق الأشجار والنبات والحيوانات بإرسال تلك الحرارة دفعةً واحدة، وكذلك البرد، وكلُّ ذلك إيمانيٌّ يجب أن نقول: إن الله على كل شيء قدير» اهـ.
وقال مرة([33]): «الضمير في «لها» عائد إلى «النار»، يجوز النصب في «أشد» والرفع من حيث الإعراب؛ فالرفع على تقدير: هو أشدُّ؛ أي: تنفُّسها هو أشدُّ الحر وأشدُّ البرد، والنصب على تقدير الظرفية، لأنه خبر عن الحَدَث؛ أي: التنفُّسُ كائنٌ في أشدِّ زمان الحَرِّ والبرد. فالحرارةُ في الصيف والبرودةُ في الشتاء إنما يكونانِ من ذَيْنك النَّفَسَين، لكنهما لا يجيئان في وقتيهما مرةً واحدةً؛ لأنهما لو كانا يجيئانِ في وقتيهما بمرةٍ واحدةٍ لأَهلَكَتَا الخلائقَ، وإنما تجيء كلُّ واحدةٍ منهما في وقته بدفعاتٍ كما هو محسوسٌ، رحمةً من الله سبحانه وتعالى على عباده، ومزيدًا لإنعامه عليهم؛ ليكونوا سالمين من ذلك» اهـ.
الفَاكْهاني (ت ٧٣٤ هـ)
وقال عمر ابن الفَاكْهاني V([34]): ««فَيْح جهنم»: سُطوع حرها، وانتشارها، وغليانها -أعاذنا اللَّه منها بمنِّه وكرمه-، ويقال: فَيْح، وفَوْح، كما يقال في الفعل: فاحَتْ ريحُ المِسْكِ، تَفوحُ، وتَفيح، ويقال -أيضًا-: فَوْحًا، وفَوَحانًا، وفَيَحانًا. قال الجوهري: يقال: فاحَ الطيبُ: إذا تَضَوَّعَ، ولا يقال: فاحَتْ ريحٌ خبيثةٌ. فانظر: هل في الحديث ما يردُّ قولَه، أم لا؟ … وفي الحديث الآخر الصحيح: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنٍ؛ نَفَسٍ في الشِّتاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ» ما يدل على ذلك أيضًا.
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث:
فقال بعضهم: هو على ظاهره، واشتكتْ حقيقةٌ، وشدةُ الحرِّ من وهجها وفَيْحِها، وجعل اللَّه فيها إدراكًا وتمييزًا بحيث تكلمتْ بهذا.
وقيل: ليس على ظاهره، ولكنه على وجه التشبيه والاستعارة والتقريب، تقديره: إنّ شدة الحر تشُبه حرَّ نار جهنم، فاحذَروه، واجتنبوا ضررَه.
والأولُ أظهر، وهو ظاهرُ الحديث، ولا مانعَ من حمله على حقيقته، فوجب الحكمُ بأنه على ظاهره، واللَّه أعلم». اهـ.
الطّيبي (ت ٧٤٣ هـ)
وقال الطّيبيّ V([35]): «قوله: «من فيح جهنم» قال الخطّابي: معناه سطوع حرها وانتشارها، وأصله السعة والانتشار، يقال: مكان أفيح أي واسع، وقيل: أصله الواو يقال: فاح يفوح فهو فيح، مثل: هان يهون فهو هيّن، ثم خفّفْنا. وقوله: «اشتكت النار» جملة مبيّنة للأولى… قال التوربشتي: ذكر في أول الحديث أن «شدة الحر من فيح جهنم»، وهو يحتمل أن يكون حقيقة أو مجازًا، فبيّن بقوله: «فأذن لها بنفسين» إلى آخره أن المراد منه الحقيقة لا غير، ثم نبّه على أن أحد النَفَسين يتولّد منه «أشد ما تجدون من الزمهرير»… [ثم نقل تمام كلام القاضي عياض، ثم قال]، وأقول: جَعْله «أشدّ» مبتدأ خبره محذوف أولى من عكسه، لدلالة الرواية للبخاري، وأما الفاء في الخبر فلإضافة «أشدّ» إلى «ما» الموصوفة أو الموصولة» اهـ.
وقال([36]): «قوله: «من فيح جهنم» الفيح سطوع الحر وفورانه. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه تشبيه. قال المظهر: شبّه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذيبة للبدن ومعذبة له، بنار جهنم، فكمَا أن النّار تُزال بالماء كذلك حرارة الحمى تزال بالماء البارد.
وثانيهما: قال بعضهم: إن الحمى مأخوذة من حرارة جهنم حقيقة: أرسلت إلى الدنيا نذيرًا للجاحدين وبشيرًا للمقربين؛ لأنها كفّارة لذنوبهم وجابرة عن تقصيرهم.
أقول: «مِنْ» ليْست بيانيّة حتى يكون تشبيهًا، كقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، هي إما ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية، أي بعض منها. ويدل على هذا التأويل ما ورد في الصحيح: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف» الحديث. فكمَا أنّ حرارةَ الصَّيْف أثر من فيحها كذلك الحمى…» اهـ.
الكِرْمانيّ (ت ٧٨٦ هـ)
قال الكِرمانيّ V([37]): «قولُه: «اشْتَكَتْ» فَإنْ قُلْتَ: إسنادُ الاشْتِكاءِ إلى النَّار والأكلِ والتَّنفُّسِ هل هو مجازٌ أو حقيقةٌ؟ قُلتُ: اختلفوا؛ فقال بعضُهم: هو على ظاهرِه، وجعل اللهُ فيها إدراكًا وتمييزًا بحيثُ تكلَّمت به، وهو الصَّوابُ إذ لا منعَ مِن حملِه على الحقيقة فوجب الحكمُ به، وقيل: ليس هو على ظاهرِه، بل هو على وجه التَّشبيه. قولُه: «أَشَدِّ» بالجرِّ بدلًا أو بيانًا، وفي بعضِها بالرَّفع، أي هو أشدُّ، محذوفُ المبتدأ، أَوْ أَشَدُّ مَا يَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ مِنْهُ محذوفُ الخبر، وفي بعضِها: «فَأَشَدُّ» بالفاءِ، وفيه لفٌّ ونَشْرٌ على غير التَّرتيب. فَإنْ قُلْتَ: كيف يحصل مِن نفس النَّار الزَّمْهَرِيرِ؟ قُلتُ: المرادُ مِن النَّار محلُّها وهو جهنَّم، وفيها طبقة زَمهريريَّة. القاضي البيضاوي: «اشْتَكَتِ النَّارُ» مجازٌ عن كثرتِها وغليانِها، وأكلُها ازدحامُ أجزائِها بحيث يضيقُ عليها مكانُها فيسعى كلُّ جزءٍ في إفناء الجزءِ الآخر والاستيلاء على مكانِها، ونَفَسُها لَهبُها وخروجُ ما يبرزُ منها، وتحقيقُه أنَّ أحوالَ هذا العالم عكسُ أمورِ ذلك العالم وآثارِها، فكما جعلَ مستطاباتِ الأشياءِ أشباه نعيم الجنان ليكونوا أميلَ إليها كذا جعلَ الشَّدائدُ المؤلمة أُنموذجًا لأحوال الجحيم ليزيد خوفُهم، فما يوجد مِن السُّمومِ المُهلكة فمِن حرِّها، وما يوجدُ مِن الصَّراصر المجمدة فمن بردها». اهـ.
وقال: «قولُه: «فَيْحِ» بفتح الفاء وسكون التحتانيَّة وبالمهملة، هو شدَّةُ استعارِها وسطوعُ حرِّها، وأصلُّه السَّعة والانتشار، و«جَهَنَّمَ» اسمٌ لِنَارِ دار الآخرة نسأل الله الكريمَ العافية منها، وهي أعجميَّةٌ لا تنصرفُ للتَّعريف والعُجْمَة، وقيل: عربيَّةٌ سُمِّيت نارُ الآخرة بها لِبُعْدِ قَعْرِها ولم تُصرَف للتَّعريف والتَّأنيث، يُقال: رَكِيَّةٌ جِهِنَّام أي بعيدةُ القعر».
وقال([38]): ««فيح جهنم» سطوع حرها وارتفاع لهبها، ويحتمل أنْ يراد به المثل، فيشبه بِحَرّ جهنم، حذّرهم أذاه وضرره، يقول: كما تحذّرون فيح جهنم، فاحذروا حرّ الظهيرة وأَذاها».
الزَّرْكَشيّ (ت ٧٩٤ هـ)
وقال الزَّرْكَشيّ V([39]): ««نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ) بالجر فيهما على البدل. «أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ» بالكسر على البدل من «نَفَس»، و بالرفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو، بدليل التصريح به في رواية، وبالفتح مفعولًا لـ«تجدون» بعده. ورواه في بدء الخلق في «باب صفة النار» وأنها مخلوقة بلفظ: «فأشد ما تجدون» وهو على هذا مبتدأ وخبره محذوف، صرَّح به النسائي في روايةٍ في «كتاب التفسير»، قال: «فأشدُّ ما تجدون من البرد من برد جهنم، وأشدُّ ما تجدون من الحَرِّ من حرِّ جهنم»» اهـ.
الكازروني (ت 802 هـ)
وقال الكازروني V([40]): «وقوله: «مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»، معناه: سطوع حرِّها وانتشارها، وأصله السعة والانتشار، يقال: مكان أفيح؛ أي: واسع، وقيل: أصله الواو، يقال: فاح يفوح فهو فيحٌ؛ مثل: هان يهون فهو هين، ثمَّ خُفِّفا … «واشْتَكَتِ النَّارُ» قال في «الكاشف»: هو جملة مبيِّنة للأولى، وإن دخلت الواو بين البيان والمبين؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ الآية [البقرة: 74] بعد قوله: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:74]. ذُكِرَ في أوَّل الحديث أنَّ «شدَّة الحرِّ من فيح جهنَّم» وهو يحتمل أن يكون حقيقة ومجازًا، فبيَّن بقوله: «فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ…» إلى آخره، أنَّ المراد منه الحقيقة لا غير، ثمَّ نبَّه على أنَّ أخذ النَّفسين يتولَّد منه أشدُّ ما تجدون مِن الحرِّ، والآخر يتولَّد منه أشدُّ ما تجدون من الزَّمهرير. قال القاضي البيضاويُّ: «اشتكاء النَّار مجاز عن كثرتها وغليانها وازدحام أجزائها بحيث يضيق عنها مكانها، فيسعى كلُّ جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانها، وَنَفَسُها: لهبها وخروج ما يبرز منها، مأخوذ مِن نفس الحيوان؛ وهو الهواء الدُّخانيُّ الَّذي تخرجه القوَّة الحيوانيَّة ويبقى منه حوالي القلب. وتحقيقه أنَّ أحوال هذا العالم عكس أمور ذلك العالم وآثارها، فكما جعل مستطابات الأشياء ممَّا يستلذُّ به الإنسان في الدُّنيا أشباه نعيم الجنان، ومِن جنس ما أعدَّ لهم فيها ليكونوا أميل إليها وأرغب فيها، ويشهد لك، قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ [البقرة:25]، كذا جعل الشَّدائد المؤلمة والأشياء المؤذية أنموذجًا لأحوال الجحيم وما يعذَّب به الكفرة والعصاة؛ ليزيد خوفهم وانزجارهم عمَّا يوصلهم إليها، فما يوجد من السُّموم المهلكة فمن حرَّها، وما يوجد مِن الصَّراصر المجمِّدة فمن زمهريرها، وهو طبقة مِن طبقات الجحيم، ويحتمل هذا الكلام وجوهًا أخر، والله سبحانه ورسوله أعلم بالحقائق…»، وقوله: «فهو» مبتدأ راجع إلى نفس، و«في الصَّيف» وما بعده خبره. و«أشدُّ» خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وذلك النَّفس الشِّتائيُّ أشدُّ ما تجدون من الزَّمهرير، والله أعلم» اهـ.
ابن المُلَقِّن (ت ٨٠٤ هـ)
وقال ابن الملقن V([41]): «الذي يقتضيه مذهبُ أهل السنة وظاهرُ الحديث أنّ شدّة الحَرّ من فيح جهنم حقيقة لا استعارة وتشبيهًا وتقريبًا، فإنّها مخلوقةٌ موجودة، وقد ثبت في «الصحيح» أنه O قال: «اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف» الحديثَ بطوله» اهـ.
وقال([42]): «الكلام على ذلك [أي: حديث «اشتكت النار...»] مِن وجوهٍ: …
الوجه الثاني: «اشْتَدَّ» افتعل مِن الشِّدَّة والقوَّة، أي: إذا قوي الحرُّ. وأصل اشتدَّ: اشتدَد، فسُكِّنت الدَّال الأولى، وأُدغمت في الثانية. و«أَبْرِدُوا» أي: افعلوها في وقت البرد، وهو الزَّمان الَّذي يتبيَّن فيه شدَّة انكسار الحرِّ؛ لأنَّ شدَّة الحرِّ تُذهب الخشوع. قَالَ ابن التِّين: «أَبْرِدُوا» أي: ادخلوا في وقت الإبراد، مثل أظلَم: دخل في الظَّلام، وأمسى: دخل في المساء، وهذا بخلاف: «الحمَّى مِن فيحِ جهنَّمَ فابردُوها عنكُم» يُقرأ بوصل الألف لأنَّه ثلاثيٌّ مِن برَد…
ثالثها: «فَيْح» بفتح الفاء وإسكان الياء ثمَّ حاءٌ مهملةٌ، ورُوي بالواو كما سلف، ومعناه: أنَّ شدَّة الحرِّ -غليانه- تشبه نار جهنَّم، فاحذروه واجتنبوا ضرره. قَالَ ابن سِيدَه: فاح الحرُّ يفيح فيحًا: سطع وهاج، وكذا فوحه. وقال الجوهريُّ: يُقال فاح الطِّيب إذا تضوَّع ولا يُقال: فاحت ريحٌ خبيثةٌ، كذا قَالَ. وليُتأمَّل هذا الحديث مع كلامه.
رابعها: الحرَّ والحَرُور: الوهْج ليلًا كان أو نهارًا، بخلاف السَّموم فإنَّه لا يكون إلَّا نهارًا، ويحتمل -كما قَالَ القاضي- أن يكون الحَرور أشدَّ مِن الحرِّ، كما أنَّ الزَّمهريرَ أشدُّ مِن البرد.
خامسها: «جَهَنَّم» مؤنَّثةٌ أعجميٌّ، وقيل: عربيٌّ مأخوذٌ مِن قول العرب: بئرٌ جِهِنَّامٌ، إذا كانت بعيدة القَعر، وهذا الاسم أصله الطبقة العليا ويُستعمل في غيرها.
سادسها: الَّذي يقتضيه مذهب أهل السُّنَّة وظاهر الحديث: أنَّ شدَّة الحرِّ مِن فيح جهنَّم حقيقةً لا استعارةً وتشبيهًا وتقريبًا، فإنَّها مخلوقةٌ موجودةٌ، وقد اشتكت النَّار إلى ربِّها، كما سلف وسيأتي الكلام عليه...
الرابع عشر: شكوى النَّار إلى ربَّها يحتمل أن يكون بلسان الحال وأن يكون بلسان المقال عندما يخلق الربُّ فيها ذلك، وهو مِن قسم الجائزات، والقدرة صالحةٌ، وإذا خلق لهدهدِ سليمان ما خلق مِن العلم والإدراك كمَا أخبر الجليل جلَّ جلاله في كتابه كان ذلك جائزًا في غيرها. قَالَ الله تعالى عنها: ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]، أَنْطَقَها ﴿الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [فصلت: 21]، ويُقال: إنَّها والجنَّة أشجع المخلوقات، وورد أنَّ الجنَّةَ إذا سألها عبدٌ أمَّنت على دعائه، وكذا النَّار.
ولا منافاة في الجمع بين الحرِّ والبرد في النَّار؛ لأنَّ النَّار عبارةٌ عن جهنَّم وفي بعض زواياها نارٌ، وفي أخرى الزَّمهَرِير، وقد ورد: «أنَّ جهنَّم تُقاد بسبعين ألف زمامٍ»، وأنَّها تخاطب المؤمن بقولها: «جُزْ يا مؤمنُ فقدْ أطفأَ نورُكَ لهَبِي».
وقولها: «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا» هو مِن شدَّتها كادت تحرق نفسها. قَالَ ابن عبَّاسٍ: «خلق الله النَّار على أربعةٍ: فنارٌ تأكل وتشرب، ونارٌ لا تأكل ولا تشرب، ونارٌ تشرب ولا تأكل، ونار عكسه. فالأولى: الَّتي خُلِقت منها الملائكة. والثَّانية: الَّتي في الحجارة، وقيل: الَّتي رُفعت لموسى ليلة المناجاة، والثَّالثة: الَّتي في البحر، وقيل: الَّتي خُلقت منها الشَّمس، والرَّابعة: نار الدُّنيا ونار جهنَّم تأكل لحومهم وعظامهم، ولا تشرب دموعهم ولا دماءهم بل يسيل ذلك إلى عين الخَبَال، فيشربُ ذلك أهل النَّار ويزدادون بذلك عذابًا». وأخبر الشارع أنَّ عصارةَ أهل النَّار شراب مَن مات مصرًّا على شرب الخمر. نقل ذلك ابن بَزِيزَة، وقال: الله أعلم بصحَّة ذلك، والَّذي في «الصحيح»: «أنَّ نار الدُّنيا خُلقت مِن نار جهنَّم». وقال: قَالَ ابن عبَّاسٍ: «ضُربت بالماء سبعين مرَّةً، ولولا ذلك ما انتفع بها الخلائق»، وإنَّما خلقها الله لأنَّها مِن تمام الدنيوية، وفيها تذكرةٌ لنَّار الآخرة وتخويفٌ مِن عذابها، نسأل الله العافية منها ومِن سائر البلايا.
فائدة: «الزَّمْهَرِيرُ» قيل: هو شدَّة البرد ويُطلق على القمر أيضًا، قيل في قوله تعالى: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ [الإنسان: 13] أنَّه القمر لأنَّهما عُبدا مِن دون الله، وورد أنَّهما يكوَّران في النَّار يوم القيامة، وهو ضعيفٌ لا كما قد وقع في بعض نسخ «الأطراف».
وقوله: «بِنَفَسَيْنِ» النَّفَس بفتح النُّون والفاء: واحد الأنفاس» اهـ.
العراقي (ت ٨٠٦ هـ)
قال العراقي V([43]): «فيه فوائد:
الأولى: اُسْتُدِلّ به على أنّ قولَه في الحديث المتقدم: «فإن شدة الحر من فيح جهنم» على حقيقته، وهو قول الجمهور…، لكَوْنِه صرّح فيه بشكوى النار إلى ربها من أَكْل بعضِها بعضًا وإِذْنه لها بِنَفَسَين، وأنّ شدّة الحرّ من ذلك النَفَس، وهذا لا يمكن معه الحمل على المجاز، ولو حملْنا شكوى النَّار على المجاز؛ لأنَّ الإِذن لها في التَّنَفُّس ونشأة شدّة الحرّ عنه لا يمكن فيه التّجوّز، والله أعلم.
الثانية: إِنْ قلتَ: قولُه في هذا الحديث: «أشدّ ما يكون من الحر من فيح جهنم» أخصّ من قوله -في الحديث المتقدم-: «فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنم»؛ لأنّ شدة الحر بعضها أشدّ من بعض، فمقتضى هذا الحديث أنّه لا يكون من فيح جهنم إلا ما هو أشدّ. قلتُ: لا يُراد بأشدّ ما يكون من الحر، التحقيق، فإنّه لا يصدُق ذلك إلا على شيءٍ يسيرٍ لا يوجد إلا في بعض أيام السنة وفي بعض البلاد، فلا يؤمر حينئذٍ بالإبراد بصلاة الظهر إلا في تلك الحالة، ولا قائلَ به، وإنّما يراد بذلك التقريب، فما قاربَ ما هو أشدّ جعل من الأشد، أو يراد الأشد الذي يكون غالبًا دون الأشد الذي لا يوجد إلا نادرًا، فيستوي حينئذٍ في هذا الموضع: «شدة الحر» و«أشد الحر»، وحكى ابنُ عبد البر في «الاستذكار» عن الحسن البصري أنه قال: «فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها». قال ابن عبد البر: «والشدة -أي المذكورة في الحديث- معنى قول الحسن» اهـ، فَبَيَّنَ هذا الكلامُ أنَّ ضابطَ شِدّة البرد والحر، ما يهلك شيئًا والله أعلم.
الثالثة: كَوْنُ «شِدّةِ الحرّ من فيح جهنم»، هل اقتضى تأخير الصلاة لما في إيقاعها في تلك الحالة من المشقة، أو أنّ الحالة التي ينتشر فيها أثر العذاب لا ينبغي التعبد بالصلاة فيها؟ ينبغي أن يكون الأول قول من يرى أن الإبراد رخصة فلو تكلف المشقة وصلّى في أول الوقت لكان أفضل، وأن يكون الثاني قول من يرى أنه الأفضل، وقد يكون القائل بأنه الأفضل يعتبر المعنى الأول أيضا ويقول تلك المشقة تقتضي مرجوحية الصلاة في تلك الحالة لما يحصل من الاضطراب السالب للخشوع. وقد اسْتُشْكِل كون الحالة التي ينتشر فيها أثر العذاب لا ينبغي الصلاة، ويقال: الصلاة سبب الرحمة فينبغي فعلها لطرد العذاب، ولكن التعليل إذا جاء من الشارع يجب تَلَقّيه بالقبول -وإنْ لم يُفهم معناه-، لكنّا نرجح بهذا الإشكال المعنى الأول وهو أنّ تَرْكَ الصلاة في تلك الحالة إنما هو لِمَا فيها من المشقة، ويترجح مع ذلك تأخير الصلاة لسلب الخشوع.
الرابعة: حكى ابن عبد البر وغيره خلافًا في قوله: «اشتكت النار إلى ربها» فقال جماعة: هو على الحقيقة، وأنها تنطق، ينطقها الذي ينطق الجلود وينطق كل شيء ولها لسان كما شاء الله… وقال آخرون هو على المجاز… قال ابن عبد البر: ولكلا القولين وجهٌ، ورجّح جماعةٌ الأول، فقال القاضي عياض: إنه الأظهر وقال القرطبي: إنه الأولى وقال النووي إنه الصواب؛ لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حَمْلِه على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره…
السادسة: «النَّفَس» بفتح الفاء، أصلُه لِلإنسان وذوات الروح، وهو خارج من الجوف وداخلٌ إليه من الهواء، فشبه الخارج من حرارة جهنم وبردها إلى الدنيا بالنفس الذي يخرج من جوف الإنسان، وقال القرطبي في «شرح مسلم»: النَّفَس: التَّنَفُّس، وفيه نظر؛ لأنّ النفس اسم، والتنفس مصدر…» اهـ.
وقال بدر الدين الدَّمَامِيْنيُّ (ت ٨٢٧ هـ)([44]): ««وَاشْتكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» اختُلف هل هذه الشكوى حقيقةٌ بكلام، أو هي مجازٌ عُبِّر فيه بلسان الحال عن لسان المقال…، قال الأستاذ أبو الوليد الطّرطُوشي: وإذا قلنا بأنه حقيقة، فلا يحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم، أما في: «تحاجَّتِ النَّارُ والجنَّةُ»، فلا بدَّ من وجود العلم مع الكلام؛ لأن المحاجَّة تقتضي التفطن لوجه الدَّلالة. «فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ» بالجرِّ فيهما على البدل، وفيه من البديع: التوسيعُ؛ مثل: «يشيبُ ابنُ آدمَ وتشبُّ فيهِ خصلتَانِ: الحرصُ وطولُ الأملِ»([45]). «أَشَدِّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدِّ مَا تَجدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» بجر «أشدِّ» في الموضعين على البدل، وبالرفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، وجُوِّز فيه النصبُ على أن يكون مفعولًا بـ«تجدون» الواقعِ بعدَه، وفيه بُعدٌ» اهـ([46]).
البرماوي (ت ٨٣١ هـ)
قال محمد البرماوي V([47]): ««اشتكت» إلى آخره، قيل: إسنادُ ذلك كلِّه إلى النَّار حقيقةً؛ لأَنَّ الله تعالى جعَل لَها إِدْراكًا وتَمييزًا ونُطْقًا. وقيل: مجازًا على جِهَة التَّشبيه، والصَّواب الأَوَّل؛ إذ لا مانِعَ من الحقيقة، وقرَّر البَيْضاويُّ الثَّاني، بأنَّها لكثْرتها وغلَيانها وازْدِحام أجزائها بحيثُ يَضيقُ عنها مكانُها، فيَسعَى كلُّ جُزءٍ في فَناءِ الآخَرِ والاستِيلاء على مكانه، ونَفَسُها لَهَبُها، وخُروج ما يَبرُز منها، فأحوالُ هذا العالَم عَكْس ذاكَ العالَم، فكما جُعل مُستطابُ الأشياء شِبْهَ نَعِيْم الجِنَان ليَكونوا أَميَلَ إليها جُعل للشَّدائد أُنْموذجًا لأحوال الجحيم ليزيْدَ خوفُهم بما يخرُج من حَرِّها ومن بَردها. «أشدّ» بالجرِّ بدَلٌ أو بيانٌ، وفي بعضها بالرَّفع خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أشدُّ كما صرَّح به في روايةٍ، أو «أشدُّ» مبتدأٌ والخبر محذوفٌ، أي: منه، وَسَيأتي في «بَدء الخلق» في «باب صفة النَّار»: «فأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ»، فيكون الخبر محذوفًا، وصَرَّح به النَّسائي في روايةٍ في «التَّفسير»، وهي: (فأَشَدُّ ما تَجدُونَ من البَرْدِ مِنْ بَردِ جهنَّمَ، وأَشَدُّ ما تَجدُون مِنَ الحَرِّ، من حَرِّ جَهنَّم)، وفيه لَفٌّ ونَشْرٌ غير مُرتَّبٍ. «من الزمهرير» أي: من طبقةٍ من جهنم زَمْهريريَّةٍ، فجهنَّم هي المُراد بالنَّار؛ لأَنَّ الزَّمهرير يكون من نفس حقيقة النَّار، وتَشهدُ له رواية النَّسائي السَّابقة».
برهان الدين الحلبي (ت 841 هـ)
وقال برهان الدين الحلبيV([48]): «قوله: «مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»: هو بفتح الفاء، ثمَّ مُثَنَّاة تحتُ ساكنة، ثمَّ حاء مهملة؛ أي: من انتشار حرِّها وقوَّته، وعند أبي ذرٍّ: «فوح»، وهما بمعنًى، ومنه: فوح الطِّيب؛ وهو سطوع ريحه وانتشارُه، وما ذكرته من فتح فاء «فَيح» هو المعروف الذي لا يجوز غيره، ورأيتُ بعض النَّاس ممَّن يزعم في نفسه أنَّه أوحَدُ المدرِّسين يُدرِّس ويقولها: «فِيح» بكسر الفاء، ويصرِّفها، ويبحث عليها…
قوله: «وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا»: يحتمل أن يكون بلسان الحال، وأن يكون بلسان المقال عندما يخلق الرَّبُّ فيها ذلك، وقال القاضي عياض عن القولِ بأنَّ ذلك حقيقة -أعني: أنَّه بلسان المقال-: «إنَّه الأظهر»، وقال النَّوويُّ: «إنَّه الصَّواب». قوله: «بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ»: كلُّه بفتح الفاء، وهو واحد «الأنفاس»، و«نَفَسٍ» الأولى والثانية بالجرِّ، بدلُ بعضٍ من كلٍّ. قوله: «الزَّمْهَرِيرِ»: قيل: هو شدَّة البرد» اهـ.
ابن رسلان (ت ٨٤٤ هـ)
قال ابن رسلان V([49]): «ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ» تعليل لمشروعية التأخير المذكور. وهَل الحكمة فيه دَفع المشقة؛ لكونها قد تسلبُ الخشوع؟ أو لأنها الحَالة التي ينتشر فيها العَذاب؟ ويؤيده روَاية عَمرو بن عبسة لمُسلم حَيث قالَ: «أقصر عن الصَّلاة عند استواء الشمس فإنهَا سَاعَة تسجر فيها جَهَنم». وقد يستشكل هذا بأن الصلاة سَبَب الرحمة؛ ففعلهَا مَظنة لطرد العَذاب فكيفَ أمَر بتركها وأجَابَ عليه أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جَاء من جهَة الشارع وَجَبَ قبُوله، وإن لم يفهم مَعناه واستنبط لهُ ابن المنَير معنى مناسبًا فقال: وقت ظهور أثر الغَضَب لا ينجع فيه الطَلب إلا ممن أذنَ لهُ فيه واستدل بحَديث الشفاعَة حَيث اعتذر الأنبياء كلهمُ سَوى نبينَا O لكونه أذن لهُ في ذلك. «مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» أي: من سَعة انتشارهَا وتنفسها ومنه مكان أفيح، أي: متَّسع، وظاهرُه أنّ مثار وَهج الحرِّ في الأرض من فيح جَهَنّم في الأرض حَقيقة، وقيل: هو من مجاز التشبيه أي: كأنّه نارُ جهنّم في الحَرّ، والأول أولى، ويؤَيدهُ حَديث الصَّحيحين: «اشتكت النار إلى ربها، فأذِنَ لهَا بنَفَسَين». وهذا على القَول بأنّ جهنم تحت الأرض. «فَإِذَا اشْتَدَّ» أصله اشتدد بوَزن افتعَل من الشدة، ثم أُدغمت إحدى الدَّالَين في الأخرى، ومفهُوم الصِّفة أنّ الحَرَّ إذا لم يشتدّ لا يشرع الإبراد، وكذَا لا يشرع في البرد من بَاب أولى، ويحتمل أن يأتي مِنْ جُمَلِ التعليل للإبراد: دَفع المشقة لكونها حالة تسلب الخشوع أن تؤخر الصَّلاة لشدة البَرَد كما في صلاة الصُبح في وقت السَّحر، فإنه يأتي في الشَّتاء وقت السَّحر زَمهرير يشق معه الذَّهاب إلى المسجد لحضور الجماعة، وَلِهذا سوَّوا بين شدّة الحرّ والبَرْد في ترك الجماعة والجُمعَة ليلًا كان أو نهارًا، وكذا يأتي في التعليل بأنها ساعة ينتشر فيها العذاب، فإن شدّة البرد من فيح جهنَّم كما في الحديث: «نفس في الشتاء» واللهُ أعلم. «فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» وهذا رُخصة حتّى لو تكلّف وصلّى في أول الوقت كانَ أفضلَ وصحَّحه بعضُ أصحابنا الخُراسانيّين وليس كذلك» اهـ.
ابن حجر (ت ٨٥٢ هـ)
قال الحافظ V([50]): «قوله: «إذا اشتدّ» أصله اشتدد بوزن افتعل من الشّدّة، ثم أُدغمت إحدى الدالين في الأخرى، ومفهومه: أنّ الحَرّ إذا لم يشتدّ لم يُشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى، قوله: «فأَبرِدوا» بقطع الهمزة وكسر الراء، أي: أَخّروا إلى أن يبرد الوقت، يقال: أَبْرَد، إذا دخل في البَرد، كأَظْهَر إذا دخل في الظَّهِيرة، ومثله في المكان: أَنْجَد، إذا دخل نَجدًا، و: أَتْهَم، إذا دخل تِهامة … والمراد بـ: «الصلاة»: الظهرُ، لأنّها الصلاة التي يشتدّ الحَرُّ غالبًا في أول وقتها، وقد جاء صريحًا في حديث أبي سعيد كما سيأتي آخر الباب، فلهذا حمل المصنف في الترجمة المطلق على المقيد والله أعلم … قوله: «فإن شدة الحر» تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونُها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم، حيث قال له: «أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم»، وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب فكيف أمر بتركها؟! وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري، بأنّ: التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه، واستنبط له الزين بن المُنيّر معنى يناسبه، فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا ودعاءً، فَنَاسَبَ الاقتصارَ عنها حينئذ، واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله سوى نبينا O، فلم يعتذر، بل طلب لكونه أذن له في ذلك، ويمكن أن يقال: سجر جهنم سبب فيحها، وفيحها سبب وجود شدة الحر، وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يصلى فيها، لكن يَرِدُ عليه أنّ سجرها مستمرٌّ في جميع السَّنة، والإبراد مختصٌّ بشدّة الحَرّ، فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة وحكمة الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب، والله أعلم. قوله: «من فيح جهنم» أي: من سَعة انتشارها وتنفّسها، ومنه مكان أفيح، أي: متّسع وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحرّ في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل: هو من مجاز التشبيه، أي: كأنّه نار جهنم في الحر، والأول أولى، ويؤيّده الحديث الآتي: «اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين … قوله: «واشتكت النار» في رواية الإسماعيلي، «قال: واشتكت النار»، وفاعل «قال»، هو النبي O، وهو بالإسناد المذكور قَبْلُ، وَوَهِمَ مَنْ جَعَلَه موقوفًا أو مُعَلّقًا([51])، وقد أفرده أحمد في «مسنده» عن سفيان، وكذلك السرّاج من طريق سفيان وغيره.
وقد اختُلف في هذه الشكوى، هل هي بلسان المقال أو بلسان الحال؟ واختار كُلًّا طائفةٌ، وقال بن عبد البر: «لِكِلَا القَولين وجهٌ ونظائرُ، والأول أرجح»، وقال عياض: إنه الأظهر. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمرٍ جائزٍ لم يحتج إلى تأويله، فحمْلُه على حقيقته أولى. وقال النووي: نحو ذلك، ثم قال: حَمْلُه على حقيقته هو الصواب، وقال نحو ذلك التوربشتي، ورجّح البيضاوي حَمْلَه على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنيّر: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأنّ استعارة الكلام للحال -وإن عهدت وسمعت- لكنّ الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز، خارج عمّا أُلِف من استعماله. قوله: «بِنَفَسَيْن» بفتح الفاء، والنَّفَس معروف، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء، قوله: «نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف» بالجر فيهما على البدل أو البيان، ويجوز الرفع والنصب، قوله: «أشدُّ» يجوز الكسر فيه على البدل، لكنَه في روايتنا بالرفع، قال البيضاوي: هو خبرُ مبتدأ محذوف، تقديره: فذلك أشد. وقال الطيّبيّ: جعل أشد مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النّفَس. قلت: يؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: «فهو أشدّ»، ويؤيد الثاني رواية النسائي من وجه آخر بلفظ: «فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم»، وفي سياق المصنف لف ونشر غير مرتّب، وهو مرتب في رواية النسائي، والمراد بـ«الزمهرير»: شدة البرد، واستشكل وجوده في النار ولا إشكال، لأنّ المراد بالنار محلها، وفيها طبقة زمهريرية، وفي الحديث رَدٌّ على مَن زعم من المعتزلة وغيرِهم أنّ النّار لا تخلق إلا يوم القيامة.
تنبيهان:
الأول: قضية التعليل المذكور قد يتوهم منها مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يَقُل به أحدٌ، لأنّها تكون غالبًا في وقت الصبح فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أُخِّرت لخرج الوقت.
الثاني: النَّفَس المذكور ينشأ عنه أشدّ الحَرّ في الصيف وإنِّما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشدّه لوجود المشقة عند شديده أيضًا، فالأشديّة تحصل عند التَّنَفُّس والشدّة مستمرّة بعد ذلك، فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدّة، والله أعلم» اهـ.
ابن المَلَك (ت ٨٥٤ هـ)
وقال ابن المَلَك V([52]): ««واشتكت النار إلى ربّها» جملة مبيّنة للأُولى، وإن دخلت الواو بين البيان والمبين، «فقالت: ربّي! أَكلَ بعضي بعضًا»، اشتكاؤها من أَكْلِ بعضِها بعضًا مَجازٌ عن كثرتها وغليانها بحيث يَضيقُ عنها مكانُها، فيسعى كل جزء منها في إفناء الآخر واستيلائه على مكانها. «فأذِنَ لها بنفَسَين»، نفسُها لهبُها وخروجُ ما يَظهَرُ منها. «نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، أشدُّ»، بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ذلك أشدّ، «ما تَجِدون من الحَرِّ»، بيان الماء الموصول من حرّها؛ أي: حَرِّ نار جهنم، وروي: بنصب «أشدَّ» صفة لـ «نَفَسَين» أو بدلًا عنه. «وأشدُّ ما تَجدون من الزَّمْهَرِير»؛ وهو البرد الشديد من زَمْهَريرها، فعُلم منه أنّ في النار شدةَ الحَرِّ وشدةَ البرد. قيل: كلٌّ منهما طبقةٌ من طبقات الجحيم، وهذا من جملة الحِكْمة الإلهية، حيث أظهر آثار الفيح في زمان الحَرِّ، وآثار الزَّمْهَرير في زمان الشتاء لتعودَ الأمزجة بالحَرِّ والبرد، فلو انعكس لم يتحمَّلْه، أو لأن الباطن في الصيف بارد فيقاوم حَرَّ الظاهر، وفي الشتاء حَرٌّ فيقاوم برد الظاهر. وأما اختلاف حَرِّ الصيف وبرد الشتاء في بعض الأيام فلعله تعالى يأمر بأن تُحفظ تلك الحرارة في موضع، ثم يرسلَها على التدريج حفظًا لأبدانهم وأشجارهم، وكذلك البَرْد» اهـ.
العيني (ت ٨٥٥ هـ)
قال العيني([53]): «وشكوى النَّار إِلَى رَبهَا يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون بطريق الحقيقة، وإليه ذهب عياض، وقال الْقُرْطُبِيّ: لَا إِحَالَة فِي حَملِ اللَّفْظ على الْحَقِيقَة، لِأَن الْمخبر الصَّادِق بِأَمْرٍ جَائِزٍ لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله، فَحَمله على حَقِيقَته أولى، وَقَالَ النَّوَوِيّ نَحْو ذَلِك، ثمَّ قَالَ: حَمْله على حَقِيقَته هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ نَحْو ذَلِك الشَّيْخ التوربشتي. قلتُ: قدرَة الله تَعَالَى أعظم من ذَلِك لِأَنَّهُ يخلق فِيهَا آلَة الْكَلَام كَمَا خلق لهدهد سُلَيْمَان مَا خلق من الْعلم والإدراك، كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم، وَحكى عَن النَّار حَيْثُ تَقول: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]، وَورد أَنّ: «الْجنَّة إِذا سَأَلَهَا عبدٌ أمَّنت على دُعَائِهِ»، وَكَذَا النَّار. وَقَالَ ابْن الْمُنَيِّر: حَمْلُه على الْحَقِيقَة هُوَ الْمُخْتَار لصلاحية الْقُدْرَة لذَلِك، وَلِأَن اسْتِعَارَة الْكَلَام للْحَال -وَإِن عهِدت وَسمعت- لَكِنّ الشكوى وتفسيرَها وَالتَّعْلِيلَ لَهُ وَالْإِذْن وَالْقَبُول والتنفس وقصره على اثْنَيْنِ فَقَط بعيد من الْمجَاز، خَارج عَمَّا أُلِف من اسْتِعْمَاله. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَهُوَ يدل على أَن النَّار تفهم وتعقل، وَقد جَاءَ أَنه: «لَيْسَ شَيْء أسمع من الْجنَّة وَالنَّار»، وَقد ورد أَن النَّار تخاطب سيدنَا مُحَمَّدًا رَسُول الله O وتخاطب الْمُؤمن بقولِهَا: «جُزْ يَا مُؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي!»، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون بِلِسَان الْحَال… وَرجع الْبَيْضَاوِيّ حمله على الْمجَاز، فَقَالَ: شكواها مجَاز عَن غليانها، وأكلها بَعْضهَا بَعْضًا مجَاز عَن ازدحام أَجْزَائِهَا، وتَنَفُّسها مجَاز عَن خُرُوج مَا يبرز مِنْهَا، قَوْله: «بنَفَسَين» تَثْنِيَة نَفَس -بِفَتْح الْفَاء-، وَهُوَ مَا يخرج من الْجوف وَيدخل فِيهِ من الْهَوَاء، قَوْله: «نَفَس» فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْجَرِّ على الْبَدَل أَو الْبَيَان، وَيجوز فيهمَا الرّفْع على أَنّه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: أَحدُهمَا نفسٌ فِي الشتَاء، وَالْآخرُ نفسٍ فِي الصَّيف، وَيجوز فيهمَا النصب على تَقْدِير: أَعنِي نفسًا فِي الشتَاء ونفسًا فِي الصَّيف، قَوْله: «أَشدّ مَا تَجِدُونَ» بجر أَشدّ على أَنّه بدل من نَفَس، أَو بَيَان، ويروى بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَذَلِك أَشدّ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: «جَعْلُ «أَشدّ» مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أولى، وَالتَّقْدِير: أَشدّ مَا تَجِدُونَ من الْحر من ذَلِك النَّفس» اهـ. وَيُؤَيّد الْوَجْه الأول رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «فَهُوَ أَشدّ»، وَيُؤَيّد الْوَجْهَ الثَّانِي رِوَايَةُ النَّسَائِيّ من وَجه آخر بِلَفْظ: «فأشدّ مَا تَجِدُونَ من الْحر، مِن حَرّ جَهَنَّم»، وَفِي اللَّفْظ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ لَفٌّ وَنشرٌ على غير التَّرْتِيب، وَلَا مَانع من حُصُول الزَّمْهَرِير من نَفَس النَّار، لِأَنّ المُرَاد من النَّار مَحَلُّهَا وَهُوَ جَهَنَّم، وفيهَا طبقَة زمهريرية، وَيُقَال: لَا مُنَافَاة فِي الْجمع بَين الْحر وَالْبرد فِي النَّار، لِأَن النَّار عبارَة عَن جَهَنَّم، وَقد وَرَدَ أَن فِي بعض زواياها نَارًا، وَفِي الْأُخْرَى الزَّمْهَرِير، وَلَيْسَ محلًّا وَاحِدًا يَسْتَحِيل أَنْ يجتمعا فِيهِ. قلتُ: الَّذِي خلق الْملك من ثلج ونار قَادر على جمع الضدين فِي مَحل وَاحِد، وَأَيْضًا: فَالنَّار من أُمُور الْآخِرَة، وَأُمُور الْآخِرَة لَا تقاس على أُمُور الدُّنْيَا، وَفِي «التَّوْضِيح»: «قَالَ ابْن عَبَّاس خلق الله النَّار على أَرْبَعَة: فَنَار تَأْكُل وتشرب، ونار لَا تَأْكُل وَلَا تشرب، ونار تشرب وَلَا تَأْكُل، وَعَكسه. فَالْأولى: الَّتِي خلقت مِنْهَا الْمَلَائِكَة، وَالثَّانيّة: الَّتِي فِي الْحِجَارَة، وَقيل: الَّتِي رؤيت لمُوسَى S لَيْلَة الْمُنَاجَاة، وَالثَّالِثَة: الَّتِي فِي الْبَحْر، وَقيل: الَّتِي خلقت مِنْهَا الشَّمْس، وَالرَّابِعَة: نَار الدُّنْيَا ونار جَهَنَّم تَأْكُل لحومهم وعظامهم وَلَا تشرب دموعهم وَلَا دِمَاءَهُمْ، بل يسيل ذَلِك إِلَى طين الخبال. وَأخْبر الشَّارِع أَنّ عُصارة أهل النَّار شراب من مَاتَ مُصِرًّا على شرب الْخمر، وَالَّذِي فِي «الصَّحِيح» أَنّ نَار الدُّنْيَا خلقت من نَار جَهَنَّم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: «ضربت بِالْمَاءِ سبعين مرّة، وَلَوْلَا ذَلِك مَا انْتفع بهَا الْخَلَائق»، وَإِنَّمَا خلقهَا الله تَعَالَى لِأَنَّهَا من تَمام الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة، وفيهَا تذكرة لنار الْآخِرَة وتخويف من عَذَابهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيه … أَنّ الشكوى تتَصَوَّر من جماد وَمن حَيَوَان أَيْضًا، كَمَا جَاءَ فِي معجزات النَّبِي O شكوى الْجذع وشكوى الْجمل على مَا عرف فِي مَوْضِعه» اهـ.
وقال([54]): «… بَيَانُ أَنّ الْحُمّى من فيح جَهَنَّم، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبحاء مُهْملَة، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث رَافع آخر الْبَاب من فوح بِالْوَاو، وَتقدّم فِي صفة النَّار بِلَفْظ فَور بالراء بدل الْحَاء، وَالْكل بِمَعْنًى وَاحِد. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الفيح والفوح لُغَتَانِ، يُقَال: فاحت رَائِحَةُ الْمسك تفيح وتفوح فيحًا وفوحًا وفووحًا، وَلَا يُقَال: فاحت ريح خبيثة. وَيجوز أَن يكون قَوْله: «من فيح جَهَنَّم» حَقِيقَة، وَيكون اللهب الْحَاصِل فِي جسم المحموم قِطْعَة من جَهَنَّم، وَقدر الله ظُهُورهَا بِأَسْبَاب تقتضيها لتعتبر الْعباد بذلك، كَمَا أَن أَنْوَاع الْفَرح وللذة من نعيم الْجنَّة أظهرها الله فِي هَذِه الدَّار عِبْرَة وَدلَالَة، وَيجوز أَن يكون من بَاب التَّشْبِيه على معنى أَنَّ حَرّ الْحُمَّى شَبيه بِحَرّ جَهَنَّم، تَنْبِيهًا للنفوس على شِدَّة حر النَّار. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ -وَهُوَ شيخ شَيْخي-: «من» لَيست بَيَانِيَّة حَتَّى يكون تَشْبِيهًا، وَهِي إِمَّا ابتدائية، أَي: الحمى نشأت وحصلت من فيح جَهَنَّم، أَو تبعيضية، أَي: بعضٌ مِنْهَا، وَيدلّ على هَذَا مَا ورد فِي «الصَّحِيح»: «اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا …» الحَدِيث، فَكَمَا أَن حرارة الصَّيف أثر من فيحها كَذَلِك الْحمى» اهـ.
الفيُّومي (ت ٨٧٠ هـ)
قال حسن بن علي الفيُّومي V ([55]): «في الصحيحين: «اشتكت النار إلى ربها فقالت النار…»، الظاهر أنّ ذلك قولٌ حقيقي إذْ لا مانعَ في أن الله تعالى ينطق النار، كما روي أنّه لمّا ناجَى موسى S، اعتزل جبريلُ S يبكي ويقول: ما أدري ما يناجيه به، فأنطق الله تعالى جبة موسى O فقالت لجبريل: أنا أقرب منك إلى جسد موسى ولا أدري ما يناجيه به ولا أسمعه. وأبعدَ بعضهم فحمل القول في الحديث على لسان الحال… والمراد بـ«الزمهرير» شدّة البرد وهو الذي أعدّه الله عذابًا للكفّار في الدار الآخرة. وروي عن ابن عباس L قال: «يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحَرّ». وعن مجاهد قال: «يهربون إلى الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض». وعن كعب قال: «إنّ في جهنم بردًا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بِحَرّ جهنّم». وعن عبد الملك بن عمير قال: «بلغني أن أهل النار سألوا خازنها أن يخرجهم إلى جانبها فأخرجوا فقتلهم البرد والزمهرير حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوه من البرد». وقد قال الله تعالى: ﴿يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ [النبأ: 24-25]. وقال الله تعلى: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ [ص: 57]، قال ابن عباس: «الغساق الزمهرير البارد الذي يحرق من برده». وقال مجاهد: «هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده». وقيل: الغساق البارد المنتن» اهـ.
السبط ابن العجمي (ت 884 هـ)
وقال أبو ذر سبط ابن العجمي V([56]): «و«فَيْحِ» بفتح الفاء، وهو شدَّة استعارتها وسطوع حرِّها وأصله السَّعة والانتشار. قوله: «اشْتَدَّ الحَرُّ» أصله: اشتدد، فسُكِّنَت الدَّال الأولى وأُدغمَت في الثَّانيةِ، ومذهب أهل السُّنَّة أنَّ شدَّةَ الحرِّ من فيح جهنَّم حقيقة لا استعارة، وتشبيه وتقريب، فإنَّها موجودة، وقد اشتكت إلى ربِّها… و«جَهَنَّمَ» اسم لنار الآخرة، أعجميَّة لا تنصرف للتّعريب والعجمة، وقيل: عربيَّة، سُمِّيَت نار الآخرة بها؛ لبعد قعرها، ولم تُصرَف للتَّعريف والتَّأنيث. يقال: ركية جهنَّام؛ أي: بعيدة القَعر… إن قلتَ: إسناد الاشتكاء إلى النَّار والأكل والتَّنفُّس هل هو مجاز أو حقيقة. قلتُ: اختلفوا؛ فقال بعضهم: هو على ظاهره، وَجَعَل الله سبحانه فيهَا إدراكًا وتمييزًا بحيثُ تكلَّمت به، وهو الصَّواب، إذ لا مَنْعَ من حَمْله على حقيقته؛ فَوَجَب الحكم به. وقيل: ليس على ظاهره، بل هو على وجه التَّشبيه، وتقدَّم ما فيه. وقوله: «أَشَدُّ» بالجرِّ بدلًا أوْ بيانًا، وفي بَعْضها: بالرَّفع؛ أي: هو أشدُّ، محذوف المبتدأ، أو: أشدُّ ما تجدون من الحرِّ منه، محذوف الخبر. وفي بعضها: «فأشدّ» بالفاء، وفيه لفٌّ ونشر على غير التَّرتيب. إن قلتَ: كيف يَحْصل من نَفس النَّار الزَّمْهرير. قلتُ: المرادُ من النَّار مَحلُّها، وَهُوَ جهنَّم، وفيها طبقة زمهريريَّة، انتهى. وقال بعضهم: «أشدُّ ما تجدون» خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أخذ النَّفسين أشدُّ ما تجدون من الحرِّ، والآخر أشدُّ ما تجدون من الزَّمهرير، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: أشدُّ ما تجدون من حرِّ الصَّيف؛ فهو من حرِّ جهنَّم، وأشدُّ ما تجدون من الزَّمهرير؛ أي: من شدَّة البرد في الشِّتاء، فهو من شدَّة برد جهنَّم. و«ما» في «مَا تَجِدُونَ» موصولة، والعائد محذوف؛ أي: تجدونه. و«من» في «مِنَ الحَرِّ» و«مِنَ الزَّمْهَرِيْرِ» بيان لها. القاضي البيضاويُّ: اشتكاء النَّار مجاز عن كثرتها وغليانها، وأكلها ازدحام أجزائها بحيث يضيق عليهَا مكانها، فيَسْعى كلُّ جزء في إفناء الجزء الآخر، والاستيلاء على مكانها ونفسها لهبها وخروج ما يَبْرز منَها. وتحقيقه: أنَّ أحوالَ هذا العالَم عكس أمور ذلك العالم وآثارها، كما جعل مُسْتطابات الأشياء أشباه نعيم الجنان؛ ليكونوا أميلَ إليهَا، كذا جَعَلَ الشَّدائدَ المؤلمة أُنموذجًا لأحوال الجحيم؛ ليزيدَ خوفهم، فما يُوْجد من السَّموم المهلكة فمن حرِّها، وما يُوْجد من الصَّراصر المجمِّدة فمن بَرْدها» اهـ.
وقال([57]): ««وَاشْتَكَتِ النَّارُ»: قال الطِّيبيُّ: «جملةٌ مُبَيِّنةٌ للأُولى وإنْ دخلتِ الواوُ بين البيانِ والمبيَّنِ؛ كما في قولِه تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} الآيةَ، بعدَ قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]». «نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ): بالجرِّ بدلُ بعضٍ مِنْ كلٍّ. «أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ»: خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: أحدُ النَّفَسينِ أشدُّ ما تجدونَ مِنَ الحرِّ، والآخَرُ أشدُّ ما تجدونَ مِنَ الزَّمهريرِ. وقال الطِّيبيُّ: «جَعْلُ «أَشَدُّ» مبتدأً خبرُه محذوفٌ أَولى مِنْ عكسِه؛ لدلالةِ روايةِ «البخاريِّ»، وأمَّا الفاءُ في الخبرِ فلإضافةِ «أَشَدُّ» إلى «مَا» الموصوفةِ والموصولة» انتهى. أي: أشدُّ ما تجدونَ مِنْ حرِّ الصَّيفِ، فهو مِنْ حرِّ جهنَّم، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ، أي: مِن شدَّةِ البردِ في الشِّتاءِ، فهو مِنْ بردِ جهنَّم. وقال البِرْماويُّ: ««أَشَدِّ»: بالجرِّ بدلٌ أو بيانٌ، وفي بعضِها بالرَّفعِ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو أشدُّ، كما صرَّحَ به في روايةٍ، أو «أَشَدُّ»: مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ، أي: منه، وسيأتي في «بدء الخلق» في «باب صفة النار»: «فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ»، فيكونُ الخبرُ محذوفًا، وصرَّحَ به في النَّسائيِّ [في رواية «التفسير»، وهي: «فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ بَرْدِ جَهَنَّمَ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»، وفيه لفٌّ ونشرٌ غيرُ مرتَّبٍ» انتهى. وقال الزركشيُّ: (بالكسرِ على البدَلِ مِنْ «نَفَسٍ»، وبالرفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فَهُوَ بدليلِ التصريحِ به في روايةٍ، وبالفتحِ مفعولًا بـــ«تجدون» بعدَه…» إلى آخر كلامه. و«مَا» في «مَا تَجِدُونَ»: قال السُّخُوميُّ: «موصوفة أو موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: تجدونَه». و«مِنْ» في «مِنَ الْحَرِّ» و«مِنَ الزَّمْهَرِيْرِ»: بيانٌ، لـ«ما» قالَه السُّخُوميُّ».
الكوراني (ت ٨٩٣ هـ)
وقال الگُوراني V([58]): «الاشتكاء: رفع الشكوى على من يقدر على الإزالة؛ واشتكاء النار، قيل: مجاز عن فرط الكثرة والغليان. والحقّ: أنّه محمول على ظاهره… وسيأتي في البخاري: أنها تقول: «هل من مزيد، حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط». وسيأتي أيضًا مخاصمة الجنة والنار عند ربهما. وقد تقرر في علم الكلام أنّ قدرته تعالى نسبتها إلى كل الممكنات على السواء؛ فأيُّ وجهٍ لِصَرف الكلام عن الحقيقة والمعنى الجَزْل([59]) الدال على كمال القدرة إلى تلفيق التأويلات الركيكة؟! وإنما يُصرف الكلام عن ظاهره إذا لم يَستقم، أو كان في الصرف نكتةٌ([60]). «فأذن لها بِنَفَسين؛ نَفَس في الشتاء، ونَفسٌ في الصيف» النَفَسُ: ما يستروح به الحيوان من إخراج الهواء المكدّر بواسطة الرّئة، فإنها بمثابة المروحة، تُخرج الهواء المكدَّر، وتجذب الطيب؛ وأصل النَفَس السّعة. وفيه دليل على بطلان قول من قال: إن الحرارة لازمة للناس؛ بل الحرّ والبرد بإيجاد الفاعل المختار» اهـ.
النُّعْماني (ت ٨٩٨ هـ)
وقال النُّعْماني V([61]): «قوله: «اشتَكَتِ النَّارُ» قيل: إنَّه موقوف، وقيل: معلَّق، وهو غير صحيح، بل هو داخل في الإسناد المذكور… وشكوى النَّار إلى ربِّها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بطريق الحقيقة، أي: بلسان القال.
والثاني: بطريق المجاز، أي: لسان الحال. قال ابن عبد البرِّ: لِكِلَا القولين وجهٌ ونظائرُ، والأوَّل أرجح، وإليه ذهب عياض، وقال القُرْطُبي: لا إحالة في حمل اللَّفظ على الحقيقة؛ لأنَّ المخبر الصادق بأمر جائز لا يحتاج إلى تأويله، فحَمْلُه على حقيقته أولى. وقال النَّوَوي نحو ذلك ثمَّ قال: حَمْله على حقيقته هو الصواب. وقال نحو ذلك الشيخ التُّوربِشتي، وقال ابن المنيِّر: حمْله على الحقيقة هو المجاز؛ لصلاحيَة القدرة لذلك، ولأنَّ استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشَّكوى وتفسيرها والتَّعليل والإذن والقبول والتَّنفُّس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عمَّا أُلِفَ من استعماله، وقال العَيني: قدرة الله أعظم من ذلك؛ لأنَّه يخلق فيها آلة الكلام كما خلق لهُدهُد سُلَيمان ما خلق من العلم والإدراك كما أخبر الله تعالى عن ذلك في كتابه الكريم، وحكى عن النَّار حيث تقول: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]، وورد: أنَّ الجنَّة إذا سألها عبد أمَّنت على دعائه، وكذا النَّار. انتهى. قلت: ويمكن أن يكون نطقها من غير خلق آلة للنطق، وقد اختلفوا في كيفيَّة نطق الحصى الَّتي سبَّحت في يده، وكذلك في نطق ذراع الشَّاة الَّتي سمَّتها اليهوديَّة، قال القاضي عياض: واختلف أئمَّة أهل النظر في هذا الباب، فمن قائل يقول: هو كلام يخلقه الله في الشَّاة الميتة أو الحجر أو الشجرة، وحروف وأصوات يُحْدِثُها الله تعالى فيها ويسمعها منها دون تغيير أشكالها ونقلها عن هيئتها، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر، وآخرون ذهبوا إلى إيجاد الحياة بها أولًا ثمَّ الكلام بعده، وحكي هذا أيضًا عن شيخنا أبي الحسن، وكلٌّ محتمل، والله أعلم، إذ لم يجعل الحياة شرطًا لوجود الحروف والأصوات؛ إذ لا يتخيَّل وجودها مع عدم الحياة بمجرَّدها، فأمَّا إذا كانت عبارة عن الكلام النَّفسي فلا بدَّ من شرط الحياة لها؛ إذ لا يوجد كلام النَّفس إلَّا من حيٍّ خلافًا للجُبَّائي من بين سائر متكلِّمي الفرق في إحالة وجود الكلام اللَّفظي والحروف والأصوات إلَّا من حيٍّ مركب تركيب من يصحُّ منه النطق بالحروف والأصوات، والتزم ذلك في الحصى والجذع والذِّراع وقال: إنَّ الله خلق فيها حياة وخرق لها فمًا ولسانًا وآلة وأمكنها بها من الكلام، وهذا لو كان لكان نقله والتهمُّم به آكد من التهمُّم بفعل تسبيحه أو حنينه، ولم ينقل أحد من أهل السير والرواية شيئًا من ذلك، فدلَّ على سقوط دعواه مع أنَّه لا ضرورة إليه في النظر، والله الموفق. انتهى. وقال الدَّاوُدي: وكلام النَّار يدلُّ على أنَّها تفهم وتعقل، وقد جاء: أنَّه ليس شيء أسمع من الجنَّة والنَّار، وقد ورد: أنَّ النَّار تخاطب سيِّدنا رسول الله صلعم، وتخاطب المؤمن بقولها: جُز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، ورجَّح البَيْضَاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفُّسها مجاز عن خروج ما يبرز منها …
قوله: «بِنَفَسَينِ» تثنية نفس -بفتح الفاء- وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء. قوله: «نَفَسٍ» في الموضعين بالجرِّ على البدل أو البيان، ويجوز فيهما الرَّفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف والتقدير: أحدهما نفس في الشِّتاء والآخر نفس في الصَّيف، ويجوز فيهما النَّصب على تقدير: أعني نفسًا في الشِّتاء ونفسًا في الصَّيف. قوله: «أَشَدِّ مَا تَجِدُونَ» بجرِّ «أشدِّ» على أنَّه بدل من نفس أو بيان، ويروى بالرَّفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أَشَدُّ مَا تَجِدُوْنَ، قال شيخنا: هو في روايتنا بالرَّفع، قال البَيْضَاوي: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فذلك أشدُّ. وقال الطِّيبيُّ: جَعْلُ أشدُّ مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير: أشدُّ ما تجدون من الحرِّ من ذلك النَّفس، ويؤيِّد رواية الوجه الأوَّل رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: «فَهُوَ أَشَدُّ»، ويؤيِّد الوجه الثَّاني رواية النَّسائي من وجه آخر بلفظ: «فأشدُّ ما تجدُون مِنَ الحَرِّ مِنْ حَرِّ جهنَّم» وفي اللَّفظ الذي رواه البخاري لفٌ ونشرٌ على غير الترتيب، قلت: لأنَّه لو كان على الترتيب لقال: فأشدُّ ما تجدون من الزمهرير، وأشدُّ ما تجدون من الحرِّ. انتهى. قال شيخنا وهو مرتب في رواية النَّسائي. انتهى. قال العَيني: ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النَّار؛ لأنَّ المراد من النَّار محلُّها وهو جهنَّم وفيها طبقة زمهريريَّة. انتهى. قلت: يدلُّ على ذلك حديث مرفوع رواه عُثْمان الدَّارمي وغيره: «إِذَا كَانَ يَوْمٌ شديدُ الحرِّ، فَقَالَ العبد: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَشَدَّ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ! اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالى لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي اسْتَجَارَ بِي مِنْك، وقد أَجَرْتُهُ، وإذا كَانَ يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فقال الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَشَدَّ بَرْدَ هَذَا الْيَوْمِ! اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي قَدِ اسْتَجَارَ بي مِنْ زَمْهَرِيرِكِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، قَالُوا: مَا زَمْهَرِيرُ جَهَنَّمَ؟ قَالَ: بَيْتٌ يُلْقَى فِيهِ الْكَافِرُ فيتمزَّق مِنْ شِدَّةِ برده [بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ]([62])». انتهى. ويقال: لا منافاة في الجمع بين الحرِّ والبرد في النَّار؛ لأنَّ النَّار عبارة عن جهنَّم، وقد ورد: أنَّ في بعض زواياها نارًا وفي أخرى الزمهرير، وليس محلًّا واحدًا يستحيل أن يجتمعا فيه. قال العَيني: الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدَّين في محلٍّ واحد، وأيضًا فالنَّار من أمور الآخرة، والآخرة لا تقاس على أمر الدنيا. انتهى. قلت: قد أرانا الله تعالى في الدُّنْيا من جمع النَّار والماء أنواعًا، منها الصَّواعق الَّتي تنزل مع المطر الشديد، وقد أحرقت هذه النَّار أماكن كثيرة مع نزولها مع الماء، وأيضًا ترى النَّار في الماء الحارِّ -أعني المالح- على هيئة السُّرُج على وجه الماء، وأيضًا إذا أخذ الماء من البحر المالح ونُثر تراه يطير شرارًا، وقد نبّه الله تعالى على هذه القدرة بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ [يس: 80] انتهى. وفي «التَّوضيح»: «قال ابن عبَّاس: خلق الله النَّار على أربعة، فنار تأكل وتشرب، ونار لا تأكل ولا تشرب، ونار تشرب ولا تأكل، وعكسه، فالأولى منها الملائكة، والثانية الَّتي في الحجارة، وقيل: الَّتي رفعت لموسى ليلة المناجاة، والثالثة الَّتي في البحر، وقيل: الَّتي خُلقت منها الشَّمس، والرابعة نار الدُّنيا، ونار جهنَّم تأكل لحومهم وعظامهم ولا تشرب دموعهم ولا دماءهم، بل يسيل ذلك إلى عين الخبال»، وأخبر الشارع: أنَّ عصارة أهل النَّار شراب من مات مُصرًّا على شرب الخمر، والذي في «الصحيح»: «أنَّ نار الدُّنْيا خلقت من نار جهنَّم»، وقال: قال ابن عبَّاس: ضربت بالماء سبعين مرَّة، ولولا ذلك ما انتفع بها الخلائق. وإنَّما خلقها الله تعالى؛ لأنَّها من تمام الأمور الدنيويَّة، وفيها تذكرة لنار الآخرة وتخويف من عذابها. انتهى. … التَّنفُّس المذكور ينشأ عنه أشدُّ الحرِّ في الصَّيف، وإنما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده لوجود المشقَّة عند شديدِه أيضًا، فالأشدِّية تحصل عند التَّنفُّس، والشدَّة مستمرَّة بعد ذلك فيستمرُّ الإبراد إلى أن تذهب الشدَّة، والله أعلم. انتهى… وفيه أنَّ الشكوى تُتصوَّر من جماد وحيوان أيضًا كما جاء في معجزات النَّبِيِّ O شكوى الجذع وشكوى الجمل على ما عُرف في موضعه … ». اهـ.
زَرُّوق (ت 899 هـ)
وقال زروق V([63]): «و«اشْتَكَتِ النَّارُ إلىَ رَبِّها»، قيل: بلسان المقال وهو الأرجح، وقيل: بلسان الحال مجازًا عن غليانها، والله أعلم، و«أكل بعضها بعضًا»: كناية عن ازدحام أجزائها وتداخلها» اهـ.
السيوطي (ت ٩١١ هـ)
وقال السيوطي V([64]): «وقوله: «أشدُّ ما تجدون من الحر». قال الزركشي: بالكسر، على البدل من نفس … وبالنصب مفعولاً، بتجدون بعده» اهـ.
وقال([65]): ««فّإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»، أي: سَعة انتشارها وتنفُّسها، والجملة تعليل لمشروعيَّة التَّأخير، وهل الحكمة فيه دفع المشقَّة لكونها تسلب الخشوع، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب، الأظهر الأوَّل … «وَاشْتَكَتِ النَّارُ»: للإسماعيليِّ: «قال: واشتكت»، وهل هذه الشَّكوى بلسان المقال أو الحال مجازًا عن غليانها، قولان: الأرجح الأوَّل. «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا»: مجاز عن ازدحام أجزائها. «نَفَسَيْنِ»: بفتح الفاء: ما يخرج من الجوف، ويدخل فيه من الهواء، وهو بالجرِّ على البدل، ويجوز رفعه ونصبه. «أَشَدُّ» بالرَّفع خبر محذوف، وللإسماعيليِّ: «فهو أشدُّ». «الزَّمْهَرِيْرِ»: شدَّة البرد» اهـ.
وقال([66]): ««إن شِدّة الحر من فيح جهنم»، الفيح -بفاء مفتوحة وياء تحتية ساكنة وحاء مهملة-، والفوح -بواو-: سطوع الحَرّ وانتشاره. واختلف على هذا على حقيقته، فقال الجمهور: نعم، وقيل: إنّه كلام خرج مخرج التَّشبيه، أي: كأنّه نار جهنم في الحر، فاجتنبوا ضرره، قال القاضي عياض: كِلا الوجْهَين ظاهر، وَحَمْلُه على الحقيقة أَوْلَى، وقال النّووي: أنّه الصواب، لأنّه ظاهر الحديث، ولا مانع يمنع مِن حَمْلِه على حقيقته فوجب الحكم بأنه على ظاهره، و«جهنم» قال يونس وغيره: اسم أعجمي ونقله ابن الأنباري في «الزاهر» عن أكثر النحويين، وقيل عربيّ، ولم يُصرف للتأنيث والعَلَمِيّة، وفي «المحكم»: سميت بذلك لبُعد قَعْرها، من قولهم: بئر جهنام؛ بعيدة القعر، وفي «الموعب» عن أبي عمرو: جهنام اسم للغليظ، وفي «المغيث» لأبي موسى المدني: جهنم، تعريب كهنام بالعبرانية. «فإذا اشتدّ»، قال مغلطاي: هو افتعلَ من الشدّة، بمعنى القوّة … «اشتكت النار إلى ربها»، اختُلف أيضًا؛ هل هو حقيقةٌ بلسان القال، أو مجازٌ بلسان الحال، أو تكلم عنها خازنها، أو مَنْ شاء الله عنها؟ والأرجح حمله على الحقيقة، كذا رجّحه ابن عبد البر، وقال: «أنطقها الله الذي أنطق كلَّ شيء»، والقاضي عياض وقال: «إن الله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تتكلم أو يخلق لها كلامًا يسمعه من شاء من خلقه»، والنووي وقال: «جعل الله فيها إدراكًا وتمييزًا بحيث تكلمتْ بهذا»، وابن المنير وقال: «إن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والنفس وقصره على اثنين فقط= بعيد من المجاز، خارج عمّا أُلِف من استعماله»، ورجّح البيضاويّ الثاني فقال: «شكواها مجازٌ عن غليانها، وأكل بعضِها بعضًا مجازٌ عن ازدحام أجزائها، ونَفَسُها مجازٌ عن خروج ما يبرز منها»، «فأذن لها بنفسين» بفتح الفاء، قال القرطبي: النَّفَس: التنفس، قال غيره: وأصله الروح، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء، فشبّه الخارج من حرارة جهنم وبردها إلى الدنيا بالنَّفَس الذي يخرج من جوف الحيوان، وقال ابن العربي: «في الحديث إشارة إلى أنَّ جهنَّم مُطْبَقة محاط عليها بِجِسم يكتنفها من جميع نواحيها»، قال: «والحكمة في التنفيس عنها، إعلام الخَلْق بأُنموذجٍ منها»، قلت: وقد روى الطَّبرانيّ في «الكبير»([67]) بسند حسن، عن ابن مسعود، قال: «تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ جَهَنَّمَ فِي قَرْنِ شَيْطَانٍ، وَبَيْنَ قَرْنِ شَيْطَانٍ، فَمَا تَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ قَصَبَةٍ([68]) إِلَّا فُتِحَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا كُلُّهَا»، وهذا يدلّ على أن التنفس يقع من أبوابها وعلى أن شدة الحر من فيح جهنم حقيقة … «نفس في الشتاء ونفس في الصيف» هما بالجر على البدل أو البيان، ويجوز الرفع، ولمسلم زيادة: «فما ترون من شدة البرد، فذلك من زمهريرها، وما ترون من شدّة الحَرّ فهو من سمومها. أو قال: من حَرّها». قال القاضي عياض: قيل: معناه أنّها إذا تَنَفَّستْ في الصيف قَوِيَ لَهَبُ تَنَفُّسِها حَرَّ الشمس، وإذا تنفستْ في الشَّتاء دفع حرُّها شِدَّةَ البرد إلى الأرض. وقال ابن عبد البر: لفظ الحديث يدلّ على أنَّ نَفَسها في الشتاء غير الشتاء، ونَفَسها في الصَّيْفِ غير الصَّيْفِ. وقال ابنُ التِّين([69]): فإِن قيل كيف يجمع بين البرد والحَرّ في النَّار؟ فالجواب: أنّ جهنَّم فيها زوايا فيها نار، وزوايا فيها زمهرير، وليْست محلًّا واحدًا يَسْتَحِيل أَنْ يَجتمعا فيه. وقال مُغلطاي: لِقائلٍ أَنْ يَقُول: الَّذِي خَلَق الْملك من ثلج ونار، قادر على جَمْعِ الضِّدَّين في مَحلٍّ وَاحِد، قال: وأَيْضًا فالنَّار من أُمور الْآخِرة، والْآخِرة لا تقاس على أمر الدُّنيا». اهـ.
القَسْطلّانيّ (ت ٩٢٣ هـ)
قال القَسْطلّانيّ V([70]): ««فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ» أي: من سعة تنفُّس «جَهَنَّمَ» حقيقةً للحديث الآتي -إن شاء الله تعالى-: «فأذن لها بنفسين»، ولا يمكن حمله على المجاز ولو حملنا شكوى النَّار على المجاز لأنَّ الإذن لها في التَّنفُّس، ونشأة شدَّة الحرِّ عنه لا يمكن فيه التَّجوُّز، أو هو من مجاز التَّشبيه، أي: مثل نار جهنَّم، فاحذروه واخشوا ضرره، والأوَّل أَوْلى!! لاسيَّما والنَّار عندنا مخلوقةٌ، فإذا تنفَّست في الصَّيف للإذن لها قوَّى لهب نَفَسها حرَّ الشَّمس، و«الفاء» في «فإنَّ» للتَّعليل لأنَّ علَّة مشروعيَّة الإبراد شدَّة الحرِّ لكونه يسلب الخشوع، أو لأنَّه ساعةٌ تُسجَر فيها جهَنَّم، وعُورِض بأنَّ فعل الصَّلاة مظنَّة وجود الرَّحمة، وأُجيب بأنَّ التَّعليل من قِبَل الشَّارع يجب قبوله وإن لم يُدرَك معناه، وبأنَّ وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطَّلب إلَّا لمن أذن له، بدليل حديث الشَّفاعة إذ يعتذر كلُّ الأنبياء بغضب الله إِلَّا نبيُّنا -عليه أفضل الصَّلاة وأزكى السَّلام- المأذون له في الشَّفاعة» اهـ.
وقال([71]): ««وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» شكايةً حقيقيَّةً بلسان المقال بحياةٍ يخلقها الله تعالى فيها، قاله عياضٌ، وتعقَّبه الأُبِّيُّ بأنَّه لابُدَّ من خلق إدراكٍ مع الحياة. انتهى. لكن قال الأستاذ أبو الوليد الطَّرطوشيُّ فيما نقله في «المصابيح»: وإذا قلنا بأنَّها حقيقيَّةٌ فلا يحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم، أمَّا في محاجَّة النَّار فلا بدَّ من وجود العلم مع الكلام؛ لأنَّ المحاجَّة تقتضي التَّفطُّن لوجه الدَّلالة، أو هي مجازيَّةٌ عرفيَّةٌ بلسان الحال عن لسان المقال … وقرَّر البيضاويُّ ذلك فقال: «شكواها» مجازٌ عن غليانها، و«أكل بعضها بعضًا» مجازٌ عن ازدحام أجزائها، و«تنفُّسها» مجازٌ عن خروج ما يبرز منها، وصوَّب النَّوويُّ حَمْلَها على الحقيقة، وقال ابن المُنَيِّر: هو المختار، وقد ورد مُخاطَبتها للرَّسول O وللمؤمنين بقولها: «جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي»، ويَضْعُف حَمْل ذلك على المجاز، قوله: «فَقَالَتْ: يَا رَبِّ!» وللأربعة: «فقالت: ربِّ» «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا» ربُّها تعالى «بِنَفَسَيْنِ» تثنية نَفَسٍ بفتح الفاء، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء «نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ» بجرِّ «نَفَسٍ» في الموضعين على البدل أو البيان، ويجوز رفعهما بتقدير «أحدهما»، ونصبهما بـ «أعني»، «فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ» أي: الَّذي تجدونه «مِنَ الحَرِّ»، أي: من ذلك النَّفَس، وهذا لا يمكن الحمل معه على المجاز، ولو حملنا شكوى النَّار على المجاز لأنّ الإذن لها في التَّنفُّس ونشأة شدَّة الحرِّ عنه لا يمكن فيه التَّجوُّز، والَّذي رويناه «أشدُّ» بالرَّفع مبتدأٌ محذوف الخبر، ويؤيِّده رواية النَّسائيِّ من وجهٍ آخر بلفظ: «فأشدُّ» ما تجدونه من الحرِّ من حرِّ جهنَّم…» الحديثَ، أو خبر مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فذلك أشدُّ، ويؤيِّده رواية غير أبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ، وعزَاها ابن حجرٍ لرواية الإسماعيليِّ من هذا الوجه: «فهو أشدُّ» ويجوز الجرُّ على البدل من السَّابق، وجُوِّز النَّصب مفعول «تجدون» الواقع بعدهُ، قال الدَّمامينيُّ: «وفيه بُعْدٌ»، «وَأَشَدُّ» بالرَّفع أو الجرِّ أو النَّصب «مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» من ذلك النَّفَس، ولا مانع من حصول الزَّمهرير من نَفَس النَّار لأنَّ المراد من النَّار محلُّها وهو جهنَّم، وفيها طبقةٌ زمهريريَّةٌ، والَّذي خلق الملك من الثَّلج والنَّار قادرٌ على جمع الضِّدَّين في محلٍّ واحدٍ».
وقال([72]): ««فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» والفيح -كما قال اللَّيث- سطوع الحرِّ، يُقال: فاحت القدر تفيح فيحًا، إذا غَلَت، وأصله: السَّعة، ومنه: أرضٌ فيحاء، أي: واسعةٌ. وقال المزِّيُّ: «من» هنا لبيان الجنس -أي: من جنس فيح جهنَّم- لا للتَّبعيض، وذلك نحو ما رُوِي عن عائشة بسندٍ جيِّدٍ ثابتٍ([73]): «من أراد أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه» أي: يسمع مثل خرير الكوثر. انتهى. وكأنَّه يحاول بذلك حمل الحديث على التَّشبيه لا على الحقيقة، وهو القول الثَّاني، ولقائلٍ أن يقول: «من» محتملةٌ للجنس وللتَّبعيض على كلٍّ من القولين، أي: من جنس الفيح حقيقةً أو تشبيهًا، أو بعض الفيح حقيقةً أو تشبيهًا … «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» حقيقةً!! بلسان المقال بحياةٍ يخلقها الله تعالى فيها، أو مجازًا بلسان الحال عن غليانها وأكلها بعضها بعضًا، «فَقَالَتْ»: يا «رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا» ربُّها «بِنَفَسَيْنِ» حَمَلَه البيضاويُّ على المجاز، وغيره على الحقيقة، وهو في الأصل ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء، «نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ» بجرِّ «نفسٍ» على البدليَّة «فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي» ولأبي ذرٍّ: «من» «الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» من ذلك التَّنفُّس، والَّذي خلق المَلَك من الثَّلج والنَّار قادرٌ على إخراج الزَّمهرير من النَّار».
وقال([74]): «باب «الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» من سُطوعِ حرِّ جهنَّم وفَورانها حقيقة، أُرْسِلَتْ إلى الدُّنيا نذيرًا للجَاحدين وبشيرًا للمُقرِّين؛ لأنَّها كفَّارةٌ لذنوبهم، أو من باب التَّشبيه شبَّه اشتعالَ حرارة الطَّبيعة في كونها مذيبةً للبدن ومُعذِّبة له بنارِ جهنَّم، ففيه تنبيهٌ للنُّفوسِ على شدَّة حرِّ جهنَّم أعاذنا الله منها ومن سائر المكارهِ بمنِّه وكرمهِ آمين، والأوَّلُ أولى. قال الطِّيبيُّ: «من» ليست بيانيَّة حتَّى يكون تشبيهًا، كقوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، فهي إمَّا ابتدائية، أي: الحمَّى نشأت وحصلتْ من فيحِ جهنَّم، أو تبعيضيَّة، أي: بعضٌ منها. قال: ويدلُّ على هذا التَّأويل ما في «الصَّحيح»، «اشتكتِ النَّارُ إلى ربِّها فقالت: ربِّ أكلَ بعضي بعضًا، فأذن لها بِنَفَسَين: نفسٍ في الشِّتاءِ ونفسٍ في الصَّيفِ»، وكمَا أنَّ حرارةَ الصَّيفِ أثرٌ من فيحها كذلك الحُمَّى. والحمَّى: حرارةٌ غريبةٌ تشتعلُ في القلبِ، وتنتشرُ منه بتوسُّطِ الرُّوحِ والدَّم في العُروقِ إلى جميعِ البدنِ، وهي قسمان عرضيَّةٌ وهي الحادثةُ عن ورمٍ، أو حركةٍ، أو إصابةِ حرارةِ الشَّمسِ، أو القبضِ([75]) الشَّديدِ ونحوها، ومرضيَّةٌ وهي ثلاثةُ أنواع، وتكونُ عن مادَّةٍ، ثمَّ منها ما يُسَخِّنُ جميعَ البدنِ، فإن كان مبدأ تعلُّقها بالرُّوح فهي حُمَّى يومٍ لأنَّها تُقْلِعُ غالبًا في يومٍ ونهايتُها إلى ثلاثٍ، وإن كان تعلُّقها بالأعضاء الأصليَّة فهي حُمَّى دِقٍّ وهي أخطرها، وإن كان تعلُّقها بالأخلاطِ سُمِّيت عفَنِيَّةً وهي بعددِ الأخلاطِ الأربعةِ، وتحت هذه الأنواعِ المذكورةِ أصنافٌ كثيرةٌ بسبب الإفراد والتَّركيب…»
وقال([76]): ««الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» سُطوعها وفَورانها من جهنَّم حقيقةً، أو أخرجهُ مخرج التَّمثيل والتَّشبيه، أي: كأنَّها نارُ جهنَّم في حرِّها «فَابْرُدُوهَا» بهمزة وصل وسكون الموحدة وضم الراء على المشهور، وحُكي كسرها، يقال: بَرَدْت الحُمَّى أَبْرُدُها بَرْدًا، بوزن: قَتَلْتُها أَقْتُلُها قَتْلًا، أي: أَسْكِنُوا حرَّها «بِالمَاءِ»» اهـ.
زكريا الأنصاري (ت ٩٢٦هـ)
وقال زكريا الأنصاري V([77]): ««اشتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» إلى آخره، إسناد ما ذكر فيه إلى النار حقيقةٌ، بأن خلق الله لها إدراكًا وتمييزًا ونطقًا، وقيل: مجاز على جهة تشبيه لسان الحال بلسان المقال… فشكواها مجازٌ عن غليانها، وأكلُ بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفُّسها مجازٌ عن خروج ما يبرز منها، قال النوويُّ: والصواب الأول؛ إذ لا مانع من الحقيقة. «نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيفِ» بجرِّهما على البدلية أو البيان من نَفَسين، ويجوز رفعهما ونصبهما. «أَشَدِّ» -بالجر- بدل أو بيان، و-بالرفع- خبر مبتدأ محذوف، وصرَّح به في نسخة بلفظ: «فهو أشد»، أو مبتدأ محذوف الخبر كما صرَّح به النسائي في رواية بلفظ: «فأشدُّ ما تجدون من البرد من برد جهنم، وأشد ما تجدون من الحر من حرِّ جهنم». «مِنَ الزَّمهَرِيرِ» المراد به شدّةُ البردِ، ولا مانع من حصولهما من نفس النارِ؛ لأنَّ المراد من النارِ محلُّها، وفيه طبقة زمهريريَّة، ولأنَّ النار عبارةٌ عن جهنم، وقد ورد: أن في بعض زواياها نارًا، وفي أخرى الزمهرير، فلا منافاة في الجمع بينهما فيها» اهـ.
الصديقي (ت 1008 هـ)
وقال الصديقي V([78]): «قوله: «واشتكت النَّار» جملةٌ مبنيَّةٌ لما قبلها، والصَّوابُ أنَّ إسنادَ الاشتكاءِ والأكلِ والتَّنفُّسِ إلى النَّارِ حقيقيٌّ. قوله: «أشدُّ» بالجر بدلًا أو بيانًا، وفي بعضها بالرَّفعِ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو مبتدأ محذوفُ الجزاءِ؛ أي: هو أشدُّ، أو أشدُّ ما تجدونَ منَ الحرِّ منْ ذلكَ النَّفسِ، وفي بعضها: فهوَ أشدُّ؛ أي: النَّفسُ الصَّيفيُّ أشدُّ. و«أشدُّ» الثَّاني خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: ذلكَ النَّفسُ الشِّتائيُّ أشدُّ ما تجدونَ من الزَّمهريرِ» اهـ.
على القاري (ت 1014 هـ)
وقال الملا على القاري V([79]): ««فإن شدة الحر من فيح جهنم» بفاء ثم ياء ثم حاء، أي: نفسها أو حرارتها أو غليانها، وقال الطيبيّ: «معناه: سطوع حرها وانتشارها» اهـ. إذ الفيح: الواسع، وقيل: أصله الواو من فاح يفوح، فهو فيّح، كهان يهون فهو هيّن، فخفف... «واشتكت النار إلى ربها»: جملة مبينة للأولى، وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ﴾ [البقرة: 74]، «فقالت: رب أكل بعضي بعضًا»، قال التوربشتي: ذكر في أول الحديث: «أَنّ شدة الحر من فيح جهنم»، وهو محتمل أنْ يكون حقيقة، وأنْ يكون مجازًا، فبيّن بقوله: «فأذن لها بنفسين»، أي: فيها «نفس في الشتاء، ونفس في الصيف»، أنّ المراد الحقيقة لا غير، ثم نبّه أنَّ أحد النفسين يتولد منه أشدّ الحر، والآخر يتولد منه أشدّ البرد بقوله: «أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير»، أي: البرد. وقال القاضي: «اشتكاء النار مجاز عن كثرتها وغليانها، وازدحام أجزائها بحيث يضيق مكانها عنها، فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر، والاستيلاء على مكانه، ونفسها لهبها، أو خروج ما برز منها مأخوذ من نفس الحيوان، وهو الهواء الدخاني الذي تخرجه القوة الحيوانية، ويبقى منه حوالي القلب، وبيانه: أنه كما جعل مستطابات الأشياء وما يستلذ به الإنسان في الدنيا أشباه نعيم الجنان، ليكونوا أميل إليه، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ [البقرة: 25] الآية. كذلك جعل الشدائد المؤلمة والأشياء المؤذية أنموذجا لأحوال الجحيم، وما يعذب به الكفرة والعصاة ليزيد خوفهم وانزجارهم، فما يوجد من السموم المهلكة، فمن حرها، وما يوجد من الصرصر المجمدة فهو من زمهريرها، وهو طبقة من طبقات الجحيم، ويحتمل هذا الكلام وجوها أخر، والله أعلم». ذكره الطيبي.
ثم قوله: «نَفَسٍ» بالجر على البدلية. وقال الأبهري: يجوز الرفع، وقوله: «أشدُّ» بالرفع على الصحيح، قال السيد جمال الدين: هو خبر مبتدأ محذوف. أي: ذلك أشد ما تجدون، أو مبتدأ خبره محذوف بقرينة الرواية الآتية. قال الطيبي: وهو أولى لرواية البخاري. قال السيد: ويروى بكسر الدال على البدل، وقال ابن المَلَك: وروي بنصب «أشدَّ» صفة لنَفَسَين أو بدلًا، وفيه: أنّ نَفَسَين مجرور، وقال بعضهم: روي في «أشدَّ» النصب أيضًا، وهو يحتمل أن يكون على حذف: «أعني»، وعلى كل تقديرٍ «فما» إما موصولة أو موصوفة، و«من الحر» و«من الزمهرير» بيان له... وفي رواية للبخاري: «فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها» بفتح السين، «وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها»، قال بعضهم: فعُلم من الحديث أنّ في النَّار شدّة الحرّ وشدّة البرد، وقيل: كل منهما طبقة من طبقات الجحيم. قال ابن المَلَك: وهذا من جملة الحِكم الإلهية حيث أظهر آثار الفيح في زمان الحر، وآثار الزمهرير في الشتاء لتعود الأمزجة بالحر والبرد، فلو انعكس لم تحتمله، إذ الباطن في الصَّيف باردٌ فيقاوم حر الظاهر، وفي الشتاء حارٌّ فيقاوم برد الظاهر، وأما اختلاف حرّ الصَّيف وبرد الشتاء في بعض الأيام، فلعلّه تعالى يأمر بأن يحفظ تلك الحرارة في موضع، ثم يرسلها على التدريج حفظًا لأبدانهم وأشجارهم، وكذا البرد».
وقال([80]): «قال: «الحمى من فيح جهنم»: بفتح الفاء وسكون الياء، قيل: هو حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة منها، أظهرها الله بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، وروى البزّار حديث: «الحمى حظ المؤمن من النار»، وقيل: هو على جهة التشبيه، أي: حرّ الحمّى شبيه بحر جهنم، والأول أولى، ذكره السيوطي، فهو تشبيه بليغ، وقال بعض الشراح: «أي: من شدّة حرّها أو من شدّة حرارة الطبيعة، وهي تشبه نار جهنم في كونها معذّبة ومذيبة للجسد» اهـ. فهو استعارة تبعية. قال الطيبي: الفيح سطوع الحر وفورانه. وفيه وجهان: أحدهما: أنه تشبيه، قال المُظهر: شبّه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مُذْهِبة للبرودة، وثانيهما: قال بعضهم: أنّ الحمى مأخوذ من حرارة جهنّم حقيقةً أرسلت إلى الدنيا نذيرًا للجاحدين وبشيرًا للمعتبرين، لأنها كفّارة لذنوبهم وجابرة عن تقصيرهم. قال الطيبي: «من» ليست بيانيّة حتى يكون تشبيهًا كقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، جعل فهي إما ابتدائية أي الحمى نشأت وحصلت من «فيح جهنم»، أو تبعيضية، أي: بعض منها، ويدلّ على هذا التأويل ما ورد في «الصحيح»: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف» الحديثَ، فكَمَا أنّ حرارة الصيف أثر من فيحها، كذلك الحمى. «فابردوها بالماء»: بهمز الوصل، وفي نسخة: بقطعها، أي ابردوا شدة حرارتها باستعمال الماء البارد، وهو يحتمل الشرب والاغتسال والصّبّ على بعض البدن كالجبين وكفوف الأيدي والأرجل، والله أعلم. وقد جاء في رواية ابن ماجه بالماء البارد... قال النووي: أبردوها بالماء ليس فيه ما يبين صفته وحالته، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرودة، ويسقونه الثلج، ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه O أراد هذا النوع من الحمى والغسل نحو ما قالوه، وقد ذكر مسلم هنا في صحيحه عن أسماء: «أنه يؤتى بالمرأة الموعوكة فتصب الماء في جيبها، وتقول: إن رسول الله O قال: «أبردوها بالماء»، فهذه أسماء راوية الحديث، وقربها من النبي O معلوم، وتؤول الحديث على نحو ما قلناه، فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب. وفي رواية لابن ماجه عن أبي هريرة: «الحمى كير من جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد». وروى الطبراني في الأوسط، عن أنس: «الحمى حظ أمتي من جهنم»، وفي الكبير عن أبي ريحانة: «الحمى كير من جهنم وهي نصيب المؤمن من النار». ورواه البزار عن عائشة: «الحمى حظ كل مؤمن من النار». وفي مسند الفردوس للديلمي عن أنس: «الحمى شهادة». وروى القضاعي عن أبي مسعود: «الحمى حظ كل مؤمن من النار وحمى ليلة تكفر خطايا سنة مجرمة» بالجيم، أي: تامّة. وروى ابن نافع عن أسد بن كرز: «الحمى تحت الخطايا كما تحت الشجرة ورقها». وروى ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أنس: «الحمى رائدة الموت وسجن الله في الأرض». وروى البيهقي عن الحسن مرسلا: «الحمى زائد الموت، وهي سجن الله في الأرض للمؤمن، يحبس بها عبده إذا شاء، ثم يرسله إذا شاء، فغيروها بالماء»، وكذا ذكره هنا و«الزهد»، وابن أبي الدنيا في «المرض والكفارات»». اهـ.
عبد الحق الدِّهْلوي (ت ١٠٥٢ هـ)
قال V([81]): «وقوله: «من فيح جهنم» فاحت القدر تفيح وتفوح: إذا غلت، وفيح جهنم وفوحها بالياء والواو وبالحاء المهملة: سطوع حرها وانتشارها، ويجيء بمعنى الوسعة، والفيحاء: الواسعة من الدور، والاشتكاء من النار حقيقةٌ أو مجاز. والظاهر هو الأول، فإن اللَّه تعالى قادر على أن يخلق فيها كلامًا تشتكي به عند ربها، وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح، وقال عياض: وهو الأظهر، وقال النووي: هو الصواب. وقوله: «أكل بعضي بعضًا» كناية عن اختلاط أجزائها وازدحامها كأنه يقصد كلُّ جزء في إفناء الآخر والتمكن في مكانه، والمراد بنفَسها لهبها وخروج ما يبرز منها كالتنفس في الحيوان. وقوله: «نفس» بالجر والرفع، وكذا قوله: «أشد» يجوز فيه الرفع والجرُّ على البدل. وقال التُّورِبِشْتِي: روايتنا بالرفع إما خبرُ محذوفٍ، أي: هو أشد، أو خبره محذوف تقديره: أشدُّ ما تجدون من ذلك النفس، ويؤيده الرواية الأخرى للبخاري ورواية النسائي: «فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم»، ويؤيد الأول رواية الإسماعيلي: «فهو أشد»، كذا قال الشيخ.
والمراد بالزمهرير شدة البرد، فإن قيل: كيف يحصل من نَفَس النار الزمهرير؟ قلتُ: المراد من النار محلها وهو جهنم، وفيها طبقة زمهريرية...
وقال التُّورِبِشْتِي: أشار بقوله: «أشد» إلى أنّ هذين النَّفَسَين ليسا على الإطلاق بموجِبَين للحر والبرد في فصل الشتاء والصيف، فإن اللَّه جعل ذلك مربوطًا بالآثار العلوية، وهذه من مقتضيات حكمة اللَّه البالغة؛ حيث أظهر آثار فيح جهنم في زمان الحر، وآثار الزمهرير في زمان البرد، ولم يجعلهما على العكس، فيتولد منهما وخامة في الأهوية وفساد في الأمزجة. وقوله: «فمن سمومها» في «القاموس»: «السَّموم الريح الحارة تكون غالبًا بالنهار».» اهـ.
الزرقاني (ت ١١٢٢هـ)
وقال الزرقاني V([82]): «... ويمكن أن يقال: سجر جهنم سبب فيحها، وفيحها سبب وجود شدة الحر، وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب ألّا يصلى فيها، لكن يرد عليه أنّ سجرها مستمر في جميع السنة، والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها لكونه في وقت ظهور أثر الغضب قاله الحافظ، واستدراكه مبني على مذهبه من الاختصاص، أما على مذهب مالك من ندب الإبراد في جميع السنة ويزاد لشدة الحر فلا استدراك. «وذكر» النبي O فهو بالإسناد المذكور، ووهم من جعله موقوفًا على أبي هريرة أو معلقًا، وقد أفرده أحمد في «مسنده» ومسلم من طريق آخر، عن أبي هريرة أنّ النّبيّ O ذكر: «أن النار اشتكت إلى ربها»، حقيقة بلسان المقال كما رجّحه من فحول الرجال ابن عبد البر وعياض والقرطبي والنووي وابن المنيّر والتوربشتي، ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال. «فأذن لها في كل عام بنفسين» تثنية نفس بالفتح «نفس في الشتاء ونفس في الصيف» الرواية بجر نفس في الموضعين إذ في رواية الصحيحين: «فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير» أي: وهو شدة البرد. وفي مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله O قال: «قالت النار: رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد وزمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم». قال القاضي عياض: «قيل: معناه إنها إذا تنفست في الصيف قوى لهب تنفسها حر الشمس، وإذا تنفست في الشتاء دفع حرها شدة البرد إلى الأرض». وقال ابن عبد البر: «لفظ الحديث يدل على أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ونفسها في الصيف غير الصيف». وقال ابن المنير: «إن قيل كيف يجمع بين البرد والحر في النار؟ فالجواب: أن جهنم فيها زوايا فيها نار وزوايا فيها زمهرير وليست محلا واحدا يستحيل أن يجتمعا فيه». وقال مغلطاي: «لِقائلٍ أن يقول: الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدين في محل واحد. وأيضا فالنار من أمور الآخرة لا تقاس على أمر الدنيا». وقال ابن العربي: «فيه إشارة إلى أن جهنم مطبقة محاط عليها بجسم يكتنفها من جميع نواحيها، والحكمة في التنفيس عنها إعلام الخلق بأنموذج منها». انتهى. وفي الطبراني الكبير بسند حسن عن ابن مسعود قال: «تطلع الشمس من جهنم في قرن شيطان وبين قرني شيطان فما ترتفع من قصبة إلا فتح باب من أبواب النار، فإذا اشتد الحر فتحت أبوابها كلها». قال السيوطي: وهذا يدل على أن التنفس يقع من أبوابها، وعلى أن شدة الحر من فيح جهنم حقيقة. انتهى» اهـ.
وقال([83]): ««إنّ الحمّى من فيح»، بفتح الفاء وسكون التحتية وحاء مهملة. وفي حديث رافع بن خديج في البخاري: «من فوح» بالواو بدل الياء، وفي رواية الشيخين عنه: «من فور» بالراء بدل الحاء، والثلاثة بمعنىً، «جهنم»، أي: سطوع حرها وفورانه حقيقة، أرسلت إلى الدنيا نذيرًا للجاحدين وبشيرًا للمقربين، لأنّها كفارة لذنوبهم، فاللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من نار جهنم قدر الله ظهورها بأسباب يقضيها، ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة، وقيل: هو من باب التشبيه، شبّه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذيبة للبدن ومعذبة له بنار جهنم، ففيه تنبيه للنفوس على شدة حر النار، والأول أولى. قال الطيبي: ««من» ليست بيانية حتى تكون تشبيها كقوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، فهي إما ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية، أي: بعض منها، قال: ويدل على هذا التأويل ما في «الصحيح»: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف»، فكمَا أنَّ حرارة الصَّيف أثر من فيحها، كذلك الحمى، وهي حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن. «فابردوها» بهمزة وصل وضم الراء على المشهور في الرواية من: بردت الحمى أبردها بردا، بِوَزْنِ: قتلتها أقتلها قتلًا، أي: أسكنت حرارتها، وحكي كسر الراء مع وصل الهمزة، وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة... وقال: «الحمى من فيح جهنم»، حقيقة أو مجازًا، ويؤيد الحقيقة حديث أحمد وغيره عن سمرة يرفعه: «الحمى قطعة من النار»، ومثله عند الترمذي عن ثوبان: «فأطفئوها» -بقطع الهمزة، وكسر الفاء بعدها همزة مضمومة- أمرًا بإطفاء حرارتها «بالماء» البارد شربًا، وغسلَ أطرافٍ، أو جميعَ الجسد على ما يليق بالزمان والمزاج والمكان. وفي حديث عائشة: «فأبردوها»، فأشار أبو عمر إلى أنّ إحداهما بالمعنى، ولا يتعين لجواز أنه O نطق باللفظين، لأن المَخْرَج مختلف...» اهـ.
أبو الحسن السندي (ت 1138هـ)
وقال أبو الحسن السندي V([84]): «قوله: «فَهُو أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ …» إلخ، أي: فنَفَسُ النَّار في الوقتين أشدُّ ما تجدون من الحرِّ والبرد في الوقتين» اهـ.
إسماعيل العجلوني (ت 1162هـ)
وقال إسماعيل العجلوني V([85]): ««فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وفيح بفتح الفاء وسكون التحتية وبالحاء المهملة ويقال: فوح بالواو قال ابن الملقن وروي بالواو لكن قال أحمد ما أعرف أحداً قاله بالواو. وأصل معناه: الاتساع والانتشار يقال مكان أفيح أي متسع، وأفاح المسك فوحًا وفووحًا وفوحانًا وفيحًا أو فيحافًا انتشرت رائحته ولا يقال في الكريهة أو عام قاله في «القاموس». وقال الجوهري: يقال فاح الطيب إذا تضوع ولا يقال فاحت ريح خبيثة. قال ابن الملقن: وليتأمل هذا الحديث مع كلامه وأقول لا إشكال على كونه عامًا كما في «القاموس». وأما على ما في «الصحاح» فلعلّه على التهكّم أو من تسمية الشّيء بضدّه فتأمّل. وجهنّم أعجمي كما قاله يونس وأكثر النحويين، وقيل: إنه عربيّ منع الصرف للعَلَمِيَّة والتَّأْنيث مأْخوذ من قول العرب: «بئر جهنام»: بعيدة القصر. وقال في «المغيث» هو تعريب كهنام بالعبرانية، وقال أبو عمر: وجهنام اسم الغليظ البعيد القعر. قال ابن الملقن: وهو اسم للطَّبَقة العُليا، ويستعمل في غيرها والحر والحرور الوهج ليلًا كان أو نهارًا، ويحتمل كما قال القاضي: أن يكون الحرور أشد من الحر كما أن الزمهرير أشد من البرد، والمعنى أنَّ زيادة الحر في الصيف من سعة انتشار حر جهنم، وتنفسها وثورانها وشدة استعارها. وظاهر الحديث أنَّ مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وهو مذهب أهل السنة لأنها مخلوقة الآن عندنا. ويؤيده الحديث في آخر الباب: «اشتكت النار إلى ربها»، وقيل: إنه استعارة أو من مجاز التشبيه، أي: كأنّه نار جهنم في شدة الحَرّ...
«وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» قال في «الفتح» في رواية الإسماعيلي: «قال: واشتكت النار» وفاعل «قال» هو النبي O وهو بالإسناد المذكور، وَوَهِم من جَعله موقوفاً أو معلقاً انتهى. يعني: فيكون مرفوعًا من كلام النبي O ولهذه الجملة مناسبة بالتي قبلها، وقد اختلف في هذه الشكوى هل هي بلسان المقال أو بلسان الحال، واختار كلًّا طائفةٌ. وقال ابن عبد البر: «لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح»، وقال عياض: «إنه الأظهر»، وقال القرطبي: «لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته»، قال: «وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى». وقال النووي: نحو ذلك، ثم قال: «حمْله على حقيقته هو الصواب»، وقال نحو ذلك التوربشتي، ورجّح البيضاوي حمْله على المجاز، فقال: «شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائهما، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها، فعبر بلسان الحال عن لسان المقال». وقال ابن المنيّر: «المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعار الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها، والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز، خارج عما ألف من استعماله». وقال أبو الوليد الطرطوسي: «وإذا قلنا أنه حقيقته فلا يحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم، أمّا في: «تحاجّت النار والجنة» فلا بد وجود العلم مع الكلام لأن المحاجّة تقتضي التفطن». وقال ابن رجب: «المحققون على أن الله أنطقها نطقًا حقيقيًّا كما ينطق الأيدي والأرجل والجلود يوم القيامة، وكما أنطق الجبال وغيرها من الجمادات بالتسبيح والسلام على رسول الله O وغير ذلك مما سمع نطقه في الدنيا، ويشهد لذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وصححه بسنده عن أبي هريرة عن النبي O قال: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عتيد وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر وبالمصورين»... انتهى. وورد: «أن جهنّم تقاد بسبعين ألف زمام»، وإنّها تخاطب المؤمن بقوله: «يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي»، وقال الداوودي: «الحديث يدل على أن النار تفهم وتعقل، وقد جاء أنه ليس شيء أسمع من الجنة والنار، وقد ورد أن الجنة إذا سألها عبد أمَّنت على دعائه وكذا النار»، ويدل أيضاً لأنه حقيقة ظاهر قوله: «فَقَالَتْ» أي: النار «يَا رَبِّ» وللأربعة: «رب» «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا» مع قوله السابق: «واشتكت النار إلى ربها»، ويمكن الحمل فيه على المجاز لا كما ادعى القسطلاني من عدم إمكانه، فتأمل وأنصف. «فَأَذِنَ» بفتح الهمزة وكسر الذال، أي: أَذِن ربها «لَهَا بِنَفَسَيْنِ» تثنية نفس بفتحتين وهو ما يخرج من الهوى من الجوف أو يدخل فيه منه، «نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ» هو الزمهرير «وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ» وهو أشد الحر ونفس فيهما بالجر بدل أو بيان لنفسين، وتجويز العيني ومن تبعه فيهما الرفع والنصب مع أنه ليس برواية لا يساعده في الثاني. وفي الحديث من أنواع البديع التوشيع بالعين المهملة، وهو أن يؤتى في الكلام بمثنى أو جمع مفسر بمتعاطفين أو متعاطفات نحو قوله: «يشيب ابن آدم ويشيب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل». وقوله: «أَشَدِّ» بالجر في الموضعين بدل من نفس، وبالرفع خبر لمحذوف؛ أي: «فهو أشد»، ويؤيده رواية غير أبي ذر والوقت والأصيلي، «فهو أشد» أو مبتدأ حذف خبره، ويدلّ له ما في بعض النسخ -كما قاله الكرماني-: «فأشد» بالفاء، ويدلّ له أيضًا كما في «المنحة» رواية النسائي المصرح فيها بالخبر، بلفظ: «فأشد ما تجدون من البرد من برد جهنم وأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم»، ويجوز جعل أشد خبرًا مقدمًا وما تجدون مبتدأ مؤخرًا، فلا حذف لإحدى العمدتين وإن كان فيه حذف العائد أي: ما تجدونه فتأمل. وقال في «المصابيح»: وجوز فيه النصب على أن يكون مفعول تجدون الواقع بعده، وفيه بعد، انتهى. وأقول: وجْهُ بُعْدِه أنّ فيه حذف المفعول الأول من تجدون العائد إلى ما الواقعة مبتدأ حذف خبرها، أي: من زمهريرها، وتقتضي هذا أنه لا يجوز لا أن يكون بعيدًا لأن تقديم الصلة أو بعض أجزائها لا يجوز فتدبر، ولو جعل النصب بتقدير أعني لم يبعد فتدبر. وفي قوله: «أشد مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» نشر لكن السابق غير مرتب، والمراد بالزمهرير شدة البرد، وقد يطلق على القمر فقد قيل في قوله تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} أنه القمر فلا يكونان في الجنة بل في النار لأنهما عبدا من دون الله، فقد ورد في حديث ضعيف أنهما يكوّران في النار يوم القيامة، أي: لتنكيل عابد بهما لا لتعذيبهما ولعله كني بالشمس عن الحر وبالزمهرير عن البرد. وقال البيضاوي: والمعنى أنه يمر عليهم فيهما هو معتدل لا حار فحم، ولا بارد مؤذ، وقيل: الزمهريرُ: القمرُ في لغة طيء، قال: وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها، والزمهرير ما زهر، والمعنى: أنّ هواها -يعني بذاته- لا يحتاج إلى شمس وقمر». انتهى. قال ابن الملقن: «ولا منافاة في الجمع بين الحر والبرد في النار، لأن النار عبارة عن جهنم، أي: محلها، وفي بعض زواياها نار، وفي أخرى الزمهرير، يعني: فَلَيْسَا في محل واحد ليستحيل اجتماعهما فيه». وقال غيره: الذي خلق ملكًا نصفه الأعلى من ثلج ونصفه الأسفل من نار، فلا الثلج يطفئ النار ولا النار تذيب الثلج= قادر على جمعِ الضَّدّين في محل واحد، لاسيما والنار من أمور الآخرة فلا تقاس على أمور الدنيا. وقال ابن رجب: «قال ابن عبد البر: «أحسن ما قيل في معنى هذا الحديث ما روي عن الحسن البصري أنه قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضًا، فخفف عني، قال: فخفف عنها، وجعل لها كل عام نفسين، فما كان من برد يهلك شيئًا فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك شيئًا فهو من حرها»»، وقد جعل الله تعالى ما في الدنيا من شدّة الحر والبرد مُذَكِّرًا بِحَرّ جهنم وبردها ودليلًا عليها، ولهذا تستحب الاستعاذة منها عند وجود ذلك، كما روى عثمان الدارمي وغيره من رواية دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أو عن أبي حجرة الأكبر عن أبي هريرة أو أحدهما حدثه عن النبي صلعم قال: إذا كان يوم حار فإذا قال الرجل لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر جهنم قال الله لجهنم إن عبداً من عبيدي استجارني من حر وأنا أشهدك أني قد أجرته وإذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم إن عبداً من عبادي قد استعاذني من زمهريرك وأنا أشهدك أني قد أجرته قالوا وما زمهرير جهنم قال بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها» انتهى. ومما يناسب إيراده هنا ما ذكره ابن الملقن بقوله: قال ابن عباس خلق الله النار على أربعة …» اهـ.
يوسف زاده الماسي (ت 1167 هـ)
وقال يوسف زاده الماسي V([86]): ««فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» بفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة، وهو سطوع الحر وفورانه، والمراد شدة استعارِها وتنفسِها وسطوعِ حرها، وأصله السعة والانتشار، ومنه مكان أفيح؛ أي: متسع، ويقال: بالواو فوح وفاحت القدر تفوح إذا غَلَت. وقال ابن سيده: فاح الحر يفيح فيحًا سطع وهاج، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل: هو خارج مخرج التشبيه والتمثيل؛ أي: كأنّه نار جهنم في حرّها، والأول أولى. ويؤيده الحديث الآتي: «اشتكت النار إلى ربها فأَذِنَ لها بنفَسَين» الحديث. وأما لفظ جهنّم فقد قال قُطْرب: زعم يونس أنه اسم أعجمي. وفي «الزاهر» لابن الأنباري: قال أكثر النحويين: هي أعجمية لا تنصرف للتعريف والعجمية، وقيل: إنه عربيٌ ولم ينصرف للتعريف والتأنيث. وفي «المغيث»: هي تعريبٌ كهنام بالعبرانية. وفي «المحكم»: سميت لبُعْدِ قعرها، ولم يقولوا فيها جهنام، ويقال: بئرٌ جهنام بعيدة القعر. وقال أبو عمر: جهنام اسمٌ وهو الغليظ البعيد القعر، ثم إنه قد استفيد من قوله O: «فإن شدة الحر من فيح جهنم» أن علَّة الأمر بالإبراد هي شدة الحر. واختُلف في حكمة هذا التأخير فقيل: دفع المشقة لكون شدة الحر مما يذهب الخشوع، وقيل: هو وقت تُسْجَرُ فيه جهنم، كما روى مسلم من حديث عمرو بن عَبَسة حيث قال له O: «أقِصْر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعةٌ تُسْجَرُ فيها جهنم» فهذه الساعة ينتشر فيها العذاب. واستشكل بأنّ فِعْل الصلاة مَظِنّة وجود الرحمة فإقامتها مظنة دفع العذاب، فكيف أَمَرَ بتركها في هذه الحالة. وأجيب: بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، قاله اليعمري. واستنبط له الزين بن المنيِّر معنىً يناسبه فقال: إن هذا الوقت وقت ظهور أثر الغضب فلا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلباً ودعاءً فناسب الاقتصار عنها حينئذ. واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله سوى نبينا O فلم يعتذر بل طَلَبَ لكونه أُذِن له في ذلك … «وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا» وهو يَحْتَمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بطريق الحقيقة بلسان المقال بحياةٍ يخلقها الله تعالى فيها، وإليه ذهب عياض. وقال القرطبيُّ: لا إحالة في حمل اللَّفظ على الحقيقة؛ لأنَّ المُخبر الصَّادق إذا أخبر بأمرٍ جائز لم يُحْتَج إلى تأويله فحمْلُه على حقيقته أولى. وقال النَّووي نحوَ ذلك ثمَّ قال: حمله على حقيقته هو الصَّواب، وقال نحو ذلك الشَّيخ فضل الله التُّوربِشتي. هذا؛ ولا غرو في ذلك؛ لأنَّ قدرة الله تعالى أعظم من ذلك فيجوز أن يخلق فيها آلة الكلام كما خلق لهدهد سليمان ما خلق من العلم والإدراك، كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم، وحكى عن النَّار ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]. وروي: أنَّ الجنَّة إذا سألها عبدٌ أمَّنت على دعائه، وكذا النَّار. وقال ابن المنيِّر: حمله على الحقيقة هو المختار؛ لصلاحيَّة القدرة لذلك؛ ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشَّكوى وتفسيرها والتَّعليل له والإذنُ والقبولُ والتَّنفسُ وقَصْرُه على اثنين فقط بعيدٌ من المجاز خارج عما أُلِف من استعماله. وقال الدَّاودي: وهو يدلُّ على أنَّ النَّار تفهم وتعقل، وقد جاء أنَّه ليس شيء أسمع من الجنَّة والنَّار، وقد وَرَدَ أنَّ النَّار تخاطب سيدنا رسول الله O، وتخاطبُ المؤمن بقولها: «جزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي».
والوجه الثَّاني: أن يكون بلسان الحال على طريقة المجاز، ورجَّح البيضاويُّ حَمْلَه على المجاز فقال: شكواها مجاز عن كثرتها وغليانها، وأكلها بعضها بعضاً مجاز عن ازدحام أجزائها بحيث يضيق عليها مكانها فيسعى كلُّ جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانه، وتنفسها مجاز عن خروجِ ما يبرزُ منها وتَلهُّبِها. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأوَّل أرجح.
«فَقَالَتْ» وفي رواية: «فقالت: ربِّ» «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً فَأَذِنَ» بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة؛ أي: أذِن ربُّها تعالى «لَهَا بِنَفَسَيْنِ» تثنية نفَس -بفتح الفاء-، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء، «نَفَس فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَس فِي الصَّيْفِ» بجرِّ «نفَس» في الموضعين على البدل أو البيان، ويجوز الرَّفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: أحدهما نَفَسٌ في الشِّتاء، والآخر نَفَسٌ في الصَّيف، «أَشَد» بالجر على أنه بدل من نفس أو بيان، ويروى بالرفع. وقال البيضاويُّ: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فذلك أشدُّ، وقال الطّيبي: جعل «أشد» مبتدأً محذوف الخبر أولى، والتَّقدير: أشد مَا تَجِدُونَ، أي: الذي تجدونه، «مِنَ الْحَرِّ» من ذلك النَّفس، ويؤيِّد الوجهَ الأوَّل روايةُ الإسماعيليِّ من هذا الوجه: «فهو أشدُّ»، ويؤيِّد الوجه الثَّاني رواية النَّسائي من وجه آخر بلفظ: «فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ من حرِّ جهنَّم». «وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» أي: شدَّة البرد، وفي سياق المؤلِّف لفٌّ ونشرٌ على غير التَّرتيب، وقد وقع على التَّرتيب في رواية النَّسائي، ثمَّ إنَّه لا مانع من حصول الزَّمهرير فيها؛ لأنَّ المراد من النَّار محلها، وهو جهنَّم، وفيها طبقة زمهريرية، وقد ورد أنَّ في بعض زواياها ناراً، وفي أخرى زمهريراً، والذي خلق الملَك من ثلج ونار قادرٌ على جمع الضِّدين في محلٍّ واحد، وأيضاً فالنَّار من أمور الآخرة والآخرة لا تُقاس على الدُّنيا. وفي «التَّوضيح»: قال ابن عبَّاس: خلق الله النَّار على أربعة أصناف: فنار تأكل وتشرب، ونار لا تأكل ولا تشرب، ونار تشرب ولا تأكل وعكسه، فالأولى التي خلقت منها الملائكة، والثَّانية التي في الحجارة، وقيل: الَّتي ظهرت لموسى ليلة المناجاة، والثَّالثة التي في البحر، وقيل: التي خلقت منها الشَّمس، والرَّابعة نار الدُّنيا. ونار جهنَّم تأكل لحومهم وعظامهم ولا تشرب دموعهم ولا دماءهم، بل يسيل ذلك إلى طين الخبال، وأخبر الشَّارع أنَّ عصارةَ أهل النَّار شرابُ مَن مات مصُرًّا على شُرْب الخمر، والذي في «الصَّحيح»: أنَّ نار الدُّنيا خلقت من نار جهنَّم. وقال ابن عبَّاس: ضُرِبَتْ بالماء سبعين مرة، ولولا ذلك ما انتفع بها الخلائق، وإنَّما خلقها الله تعالى؛ لأنَّها من تمام الأمور الدُّنيويَّة، وفيها تذكرة لنار الآخرة، وتخويف من عذابها. وقد قِيْل: إنَّ أمور هذا العالم عكس أمور ذلك العالم وآثارها، فكما جعل مستطابات الدُّنيا أشباه نعيم الجنان ليكونوا أميل إليها كذلك جعل الشَّدائد المؤلمة أنموذج لأحوال الجحيم؛ ليزيد خوفهم، فما وُجِدَ من السُّموم المهلكة فمن حرِّها، وما يوجد من الصَّراصر المُجمدة فمن بردها، والله أعلم. وفي الحديث استحباب الإبراد بالظُّهر عند اشتداد الحرِّ في الصَّيف. فإن قيل: النَّفس المذكور ينشأ عنه أشدُّ الحرِّ في الصَّيف فَلِمَ لمْ يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده؟ فالجواب: أنَّه لوجود المشقَّة عند شديده أيضاً، فالأشديَّة تحصل عند التنفُّس، لكن الشِّدَّة مستمرَّة بعد ذلك فيستمرُّ الأمر بالإبراد إلى أن تذهب الشِّدَّة. فإن قِيْل: قد يتوهَّم من قضية التَّعليل مشروعيَّة تأخير الصَّلاة في وقت شدَّة البرد ولم يَقُلْ به أحد. فالجواب: أنَّها تكون غالباً في وقت الصُّبح فلا تزول إلَّا بطلوع الشَّمس، فلو أُخِرَتْ لخرجَ الوقت، والله أعلم. وفيه: أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقتان الآن، خلافاً لمن يقول من المعتزلة: أنَّهما تُخْلَقان يوم القيامة. وفيه: أنَّ الشَّكوى تتصوَّر من جماد ومن حيوان أيضًا كما جاء في معجزات النَّبي O شكوى الجذع، وشكوى الجمل على ما عُرف في موضعه» اهـ.
عثمان الكماخي (ت ١١٧١ هـ)
وقال عثمان الكماخي V([87]): «قال: «إذا كان الحر» أي: اشتد الحر، أصله: اشتد على وزن افتعل من الشدة، ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى، فأبردوا بقطع الهمزة وكسر الواو المهملة، أي: أخروا إلى أن تبرد الوقت، يقال: أبرد إذا دخل في البرد، وأظهر إذا دخل في الظهيرة، عن الصلاة، أي: بصلاة الظهر، لما جاء في رواية، وعن تأتي بمعنى الباء، كـ «رميت البهم عن القوس» أي: به، قال القاضي عياض: وبه جزم النووي. وقال القاضي عياض: «أو» زائدة، أي: أبردوا الصلاة، يقال: أبرد الرجل أي: إذا فعله في برد النهار أو للمجاوزة، أي: تجاوزوا عن وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر، وقال الخطابي: أي: فأخِّروا عن الصلاة مبردين، أي: داخلين في وقت الإِبراد، فإن شدة الحرِّ تعليل لمشروعية الإِبراد «من فَيْحِ جهنم»، بفتح الفاء، وإسكان الياء التحتية، وحاء مهملة -أي: غليانها- أو انتشار شررها وتنفسها، وجهنم اسم أعجمي عند أكثر النجاة، وقيل: عربي ولم ينصرف، للتأنيث والعلمية، سميت بذلك لبعد قعرها، كما في «المحكم». وحكمة رفع المشقة؛ لأنها قد تسلب الخشوع المقصود فيها، وهذا أظهر، وقيل: لأنها الساعة التي ينتشر فيها العذاب؛ لقوله O في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم: «أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس؛ فإنها ساعة تسجر فيها جهنم». واستشكل بأن الصلاة مظنة الرحمة، ففعلها مظنة طرد العذاب، فكيف أمر بتركها؟ وأجيب بأن التعليل: إذا جاء من الشارع وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه. واستنبط له ابن المنير معنى مناسبًا... ويمكن أن يقال: تسجر جهنم، أي: تحمى بسبب فيحها، وفيحها سبب وجود الحر، وهو مظنة المشقة؛ التي هي مظنة سلب الخشوع، فناسب ألّا يصلي فيها، لكن يرد عليه أن سجرها في جميع السنة، والإِيراد مختص بشدة الحر، فهما متغايران، فحكم الإِيراد دفع المشقة، وحكم الترك وقت سجرها، لكونه وقت ظهور أثر الغضب، قال الحافظ: واستدراكه مبني على مذهبه من الاختصاص، أما على مذهب مالك من ندب الإِبراد في جميع السنة، ويزداد لشدة الحر قد استدرك.
وذكر أي: النبي O، فهو بالإِسناد المذكور، وهم من جعله موقوفًا على أبي هريرة، أو معلقًا وقد أفرده أحمد في «مسنده»، ومسلم من طرق أخرى عن أبي هريرة: أن النبي O، ذكر أن النار اشْتكت إلى ربها عز وجل، بلسان المقال -كما رجحه- فحول الرجال ابن عبد البر، «فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا»، وقيل: شكواها بلسان الحال، أو تكلم خازنها، أو من شاء الله عنها، قال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، ورجّح حمله على الحقيقة: «أنطقها الله الذي أنطق كل شيء». ورجّح البيضاوي المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكل بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، فأذِن لها في كل عام بَنفَسَيْن، بفتحات وسكون الياء والنون بعدها تثنية نَفَس، وهو ما يخرج من الجوف، ويدخل فيه من الهواء، فشبّه الخارج من حرارتها، وبردها إلى الدنيا بالنفس الخارج من جوف الحيوان، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، هما بالجر على البدل، أو البيان، ويجوز الرفع بتقدير أحدهما. وقال الزين بن المنيّر: المختار الحقيقة في اشتكائها داخل بعضها ببعض، والنفس لصلاحية القدرة لذلك؛ ولأن استعارة الكلام المحال لكن الشكوى وتغييرها والتعلل له بالإِذن والقبول والنفس وقصره على الاثنين فقط بعيد عن المجاز، خارج عما ألف من استعماله، كما قاله الزرقاني قال محمد: وبهذا أي: وبهذا الحديث نأخذ، أي: نعمل لغيرنا من الفقهاء، نُبْرِدُ بصيغة التكلم مع غيره، من الإِبراد والتبريد، أي: نؤخر بصلاة الظهر في الصيف، ونصلي أي: الظهر في الشتاء أي: استحبابًا فيهما حين تزول الشمس، أي: تميل عن وسط السماء في أول وقته بناءً على المسارعة إلى العبادة، دليل على كمال الطاعة، وهو أي: الإِبراد بصلاة الظهر في الصيف، وأن نصلي صلاة الظهر في الشتاء حين تميل الشمس عن وسط السماء قولُ أبي حنيفة V. وروى البخاري من حديث خالد بن دينار، قال: صلى بنا أميرنا الجمعة، ثم قال لأنس: كيف كان رسول الله O يصلي الظهر؟ قال: كان النبي O إذا اشتد البرد بكَّر بالصلاة، أي: صلاة الظهر، في أول وقتها في الشتاء، وإذا اشتد الحر أبردها، أخرها قليلًا ثم يصليها. لما فرغ من بيان تأخير الصلاة في وقت شدة الحر، شرع في بيان أحوال الرجل، من نسيان الصلاة، أو تفويت الصلاة به، فقال: هذا» اهـ.
المنيني (ت 1172 هـ)
وقال المنيني V([88]): ««فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»: بفتح الفاء وسكون التحتية وبالحاء المهملة، سطوع الحر وفورانه من سعة انتشار نار جهنم وتنفيسها ومنه مكان أفيح؛ أي: متسع وهذا كناية عن شدة استعارها. قال في «الفتح»: وهو تعليل لمشروعية التأخير المذكور، ولعل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع وهذا أظهر، وقيل: لكونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب. ويؤيده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له: أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجر فيها جهنم؛ أي: تسعر وتحمى. واستشكل بأن فعل الصلاة مظنة وجود الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب فكيف أمر بتركها؟ وأجيب: بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه. واستنبط له الزين ابن المنير معنى مناسباً فقال: وقت ظهور الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه والصلاة لا تنفك عن كونها طلباً ودعاء فناسب الاقتصار عنها حينئذ. واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله سوى نبينا صلعم فلم يعتذر، بل طلب لكونه أذن له في ذلك. ويمكن أن يقال سجر جهنم سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب ألَّا يصلى فيها، لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع السنة والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب وظاهر قوله: من فيح جهنم أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل: هو من مجاز التشبيه؛ أي: كأنه نار جهنم في الحر، والأول أولى. ويؤيده الحديث الآتي: اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين وسيأتي البحث فيه. انتهى. قال العيني: وقد اختلفوا في كيفية الأمر بالإبراد في صلاة الظهر فحكى القاضي عياض وغيره أن بعضهم ذهب إلى أن الأمر فيه للوجوب. وقال الكرماني: فإن قلت ظاهر الأمر للوجوب فلم قلت بالاستحباب؟ قلت: للإجماع على عدمه. وقال بعضهم: غفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب. قلت: لا يقال بأنه غفل بل الذين نقل عنهم فيه الإجماع كأنهم لم يعتبروا كلام من ادَّعى فيه الوجوب فصار كالعدم، وأجمعوا على أن الأمر للاستحباب. فإن قلت: ما القرينة الصارفة عن الوجوب؟ قلت: لما كانت العلة فيه دفع المشقة عن المصلي لشدة الحر وكان ذلك للشفقة عليه فصار من باب النفع له فلو كان للوجوب يصير عليه ويعود الأمر على موضوعه بالنقص. انتهى. وأقول: يرد على هذه العلة قصر الصلاة للمسافر فإن العلة فيه دفع المشقة عنه والتخفيف عليه ومع هذا فالقصر واجب عليه عند أبي حنيفة فيلزم أن يكون العيني بنى ذلك على غير مذهبه اللهم إلا أن يقال لا نسلم أن القصر في السفر رخصة بل عزيمة بدليل حديث عائشة في «الصحيحين»: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر، وفي لفظ للبخاري فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلعم ففرضت أربعاً وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى… «وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا»: قال في «الفتح»: في رواية الإسماعيلي قال: واشتكت النار وفاعل قال هو النبي صلعم وهو بالإسناد المذكور. قيل: وَوَهِم من جعله موقوفاً أو معلقاً. وقد أفرده أحمد في ((مسنده)) عن سفيان وكذلك السراج من طريق سفيان وغيره. وقد اختلف في هذه الشكوى هل هي بلسان المقال أو بلسان الحال؟ واختار كلاً طائفة. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح. وقال عياض: إنه الأظهر. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويل فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وقال نحو ذلك التوربشتي، ورجّح البيضاوي حمله على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك أو لأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد عن المجاز، خارج عما ألف من استعماله. انتهى. وقال أبو الوليد الطرطوسي: وإذا قلنا إنه حقيقة فلا يحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم أما في تحاجت النار والجنة فلا بد من وجود العلم مع الكلام؛ لأن المحاجة تقتضي التفطن. وقال ابن رجب: المحققون على أن الله تعالى أنطقها نطقًا حقيقيًا كما تنطق الأيدي والأرجل والجلود يوم القيامة، وكما أنطق الجبال وغيرها من الجمادات بالتسبيح والسلام على رسول الله O، وغير ذلك مما سمع نطقه في الدنيا ويشهد لذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة، عن النبي O قال: «يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين». وخرجه البزار عن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: «يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به» الحديث. انتهى.
وورد أن جهنم تقاد بسبعين ألف زمام، وأنها تخاطب المؤمن تقول: «جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي». وقال الدراوردي: والحديث يدل على أن النار تفهم وتعقل وقد جاء أنه ليس شيء أسمع من الجنة والنار وقد ورد أن الجنة إذا سألها العبد أمنت على دعائه وكذا النار. ويؤيد الحمل على الحقيقة ظاهرُ قولِه: «فَقَالَتْ: يَا رَبِّ»، وللأربعة: «فقالت رب» «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا رَبُّهَا بِنَفَسَيْنِ» تثنية «نَفَس» بفتح الفاء وهو ما يخرج من الجوف من الهوى ويدخل فيه «نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ»: هو الزمهرير. «وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ» وَهُوَ أشد الحر، و«نفس» فيهما بالجر على البدلية، وهي الرواية وجوّز الحافظ والعيني والقسطلاني ومن تبعهم أن يكون الجر على البيان، وذلك ممَّا يأباه البصريون؛ لأنّ البيان لا يجري في النكرات. وجوَّز العيني وتبعه القسطلاني في «نفس» الرفع والنصب وإن لم يساعد الثاني الرسم. وفي الحديث من أنواع البديع التوشيع: «مثل يشيب ابن آدم ويشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل». «أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ» أي: الذي تجدونه «مِنَ الْحَرِّ» قال في «الفتح» يجوز في أشدّ الكسر على البدل، لكنّه في روايتنا بالرفع. قال البيضاوي: وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فذلك أشدّ. وقال الطيبي: جعل «أشد» مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس. يؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: «فهو أشد»، ويؤيد الثاني رواية النسائي من وجه آخر بلفظ: «فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم»، وفي سياق المصنف لف ونشر غير مرتب، وهو مرتب في رواية النسائي. انتهى. «وَأَشَدُّ» عطفًا على أشدّ بوجهيْه، «مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» من ذلك النفس، والمراد بالزمهرير شدّة البرد. قال في «الفتح» واستشكل وجوده في النار ولا إشكال؛ لأنَّ المراد بالنار محلها وفيها طبقة زمهريرية. انتهى. والذي خلق الملك من الثلج والنار قادر على جمع الضدين في محل واحد... ويستحب الاستعاذة من حرها وزمهريها عند وجودهما، فقد روى عثمان الدارمي وغيره من رواية دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أو عن أبي حجرة الأكبر عن أبي هريرة عن النبي صلعم قال: «إذا كان يوم حار فإذا قال الرجل: لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر نار جهنم قال الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي استجارني من حرك، وأنا أشهدك أنني قد أجرته، وإذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم: إن عبداً من عبادي قد استعاذني من زمهريرك وأنا أشهدك أني قد أجرته» قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: «بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها»» اهـ.
الأمير الصنعاني (ت ١١٨٢هـ)
قال الأمير الصنعاني V([89]): «قوله: «اشتكت النار» اختلف في هذه الشكوى هل هي بلسان المقال أو الحال، واختار كلًّا طائفةٌ. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح. وقال عياض إنه الأظهر، وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته، وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على الحقيقة أولى. وقال الزين ابن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك. قلت: ويؤيده قوله: «فقالت» فإنَّه في لسان المقال. قوله: «بنفسين» بفتح الفاء، والنفس هو ما يخرج من الجوف، ويدخل فيه من الهواء. قوله: «نفس في الشتاء ونفس في الصيف» بالجر فيهما على البدل أو البيان، ويجوز الرفع، والمصدرية. قوله: «أشد» يجوز الكسر فيه، بمعنى البدل، قال ابن حجر: لكنه في روايتنا بالرفع. قال البيضاوي: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فذاك أشد، والمراد بالزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار ولا إشكال؛ لأن المراد بالنار محلها وفيها طبقة زمهريرية وسياق القصة قد يتوهم منها مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد؛ لأنها تكون غالباً في وقت الصبح، فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخرت لخرج الوقت، قاله في «الفتح» اهـ.
وقال([90]): «قوله: «فإن شدة الحر» تعليل للأمر بالتأخير، واختلف في وجهه فقيل: إنه لرفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع. وقيل: لكونها التي ينتشر فيها العذاب كما ورد أن عند استواء الشمس تسجر جهنم. قوله: «من فيح جهنم» ويقال: فوح، والفاء فيهما مفتوحة، وبالحاء المهملة، وهو سطوع حرها وانتشاره يقال: فاحت القدر تفوح إذا غلت. واختلف هل هنا حقيقة أو مجاز، فالجمهور على أنه حقيقة. فقالوا: وهج الحرّ من فيح جهنم، ويؤيده حديث أبي هريرة: «اشتكت النار إلى ربها b، فأذن لها بنفسين» يأتي. وقيل: إنه كلام خرج مخرج التشبيه. أي: كأنه نار جهنم في الحر فاجتنبوا ضرره. قال القاضي: حمله على الحقيقة أولى. وقال ابن عبد البر: إنه لقصده عموم الخطاب، وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب... قوله: «اشتكت إلى ربها» أقول: اختلف في هذه الشكوى: هل هي بلسان المقال أو الحال؟ ذهب إلى كلِّ طائفة. قال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه، ونظائر والأول أرجح. وقال عياض: إنه الأظهر. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى. ورجّح البيضاوي حمله على المجاز. فقال: شكواها مجاز عن غليانها. وأكل بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، ونفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها، واستبعده الزين ابن المنير، وقال: حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك أولى. قوله: «بنفسين» أقول: النفس بفتح الفاء معروف، وهو ما يخرج من الجوف، ويدخل فيه من الهواء. قوله: «نفس في الشتاء ونفس في الصيف» بالجر فيهما بدلًا أو بيانًا، ويجوز الرفع والنصب. قلت: هكذا رواه ابن الأثير في «الجامع»، وتبعه «التيسير» ولكن في البخاري زيادة: «فأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم، وأشد ما تجدون من الزمهرير» انتهى. والزمهرير: شدة البرد. واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال؛ لأن المراد بالنار محلها وفيها طبقة زمهريرية. فإن قلت: فلم لم يؤمر بتأخير الصلاة في شدة البرد كما في شدة الحر؟ قلت: شدة البرد يكون غالبًا وقت الصبح، ولا يزول إلا بطلوع الشمس وارتفاع النهار، فلو أخّرت الصلاة لشدة البرد لخرجت عن وقتها، ولا سبيل إلى ذلك، ولم يقل به أحد، ثم إن التنفس يحصل عند أشديّة الحر، ولم يقتصر في الإبراد على أشده لوجود المشقة عند شديده أيضاً، فالأشدية تحصل عند التنفس، والشدة مستمرة بعد ذلك فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدة» اهـ.
السفّاريني (ت ١١٨٨ هـ)
وقال السفّارينيّ V([91]): ««فإنَّ شدّة الحرّ» تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة؛ لكونها قد تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث عمرو بن عنبسة، عند مسلم، حيث قال له: «أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس؛ فإنها ساعة تسجر فيها جهنم». واستشكل: بأن الصلاة مظنة وجود الرحمة، ففعلها مظنة لطرد العذاب، فكيف أمر O بتركها؟! وأجيب: بأن التعليل إذا جاء من جهة الشرع، وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه. واستنبط له الزين بن المنير معنًى مناسبًا، فقال: وقت ظهور أثر الغضب، لا ينجع فيه الطلب، إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا، ودعاء، فناسب الإقصار عنها حينئذ، واستدل بحديث الشفاعة؛ حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم: بأن اللَّه غضب غضبًا، لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا O؛ فلم يعتذر، بل طلب؛ لكونه أذن له في ذلك. ويمكن أن يقال: سجر جهنم فيحها، وفيحها سبب وجود شدة الحر؛ وهو سبب المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع؛ فناسب ألا يصلَّى فيها. لكن يرد عليه: أن سجرها موجود في جميع السنة، والإبراد يختص بشدة الحرّ. ويمكن أن يقال: الحكمتان في ذلك متغايرتان؛ فحكمة الإبراد المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها؛ لكونه وقت ظهور أثر الغضب. «من فيح» أي: من سعة انتشارها.. وتنفسها؛ ومنه: مكان أفيح، أي: متسع؛ وهذا كناية عن شدة استعارها. وظاهره: أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل هو من مجاز التشبيه؛ أي: كأنه نار جهنم في الحر. والأول أولى، ويؤيده الحديث الذي فيه: «أن النار اشتكت إلى ربها، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء» فشدة الحر من فيح جهنم، وشدة البرد من زمهريرها، وهو حديث صحيح في البخاري، ومسلم، وغيرهما» اهـ.
الشَّوْكاني (ت ١٢٥٠هـ)
وقال الشوكاني V([92]): ««وفيح جهنم» شدّة حرّها وشدّة غليانها. قال القاضي عياض: اختلف العلماء في معناه فقال بعضهم: هو على ظاهره. وقيل: بل هو على وجه التشبيه والاستعارة وتقديره إن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه واجتنبوا ضرره، قال: والأول أظهر. وقال النووي: هو الصواب؛ لأنه ظاهر الحديث، ولا مانع من حمله على حقيقته فوجب الحكم بأنه على ظاهره انتهى ويدل عليه حديث: «إن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف» وهو في «الصحيح». وحديث «إن لجهنم نفسين» وهو كذلك. والأحاديث تدل على مشروعية الإبراد والأمر محمول على الاستحباب، وقيل: على الوجوب، حكى ذلك القاضي عياض، وهو المعنى الحقيقي له. وذهب إلى الأول جماهير العلماء لكنهم خصوا ذلك بأيام شدة الحر كما يشعر بذلك التعليل بقوله: «فإن شدة الحر من فيح جهنم» ولحديث أنس المذكور في الباب، وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين الجماعة والمنفرد، وقال أكثر المالكية: الأفضل للمنفرد التعجيل، والحق عدم الفرق؛ لأن التأذي بالحر الذي يتسبب عنه ذهاب الخشوع يستوي فيه المنفرد وغيره. وخصَّه الشافعي بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون المسجد من مكان بعيد لا إذا كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في ظل فالأفضل التعجيل. وظاهر الأحاديث عدم الفرق، وقد ذهب إلى الأخذ بهذا الظاهر أحمد وإسحاق والكوفيون وابن المنذر، ولكن التعليل بقوله: «فإن شدة الحر» يدل على ما ذكره من التقييد بالبلد الحارّ. وذهب الهادي والقاسم وغيرهما إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا وتمسكوا بحديث جابر بن سمرة المذكور في أول الباب وسائر الروايات المذكورة هناك وبأحاديث أفضلية أول الوقت على العموم كحديث أبي ذر عند البخاري ومسلم وغيرهما، قال: «سألتُ النَّبيَّ O أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها». وبحديث خباب عند مسلم قال: «شكونا إلى رسول الله O حرّ الرّمضاء في جباهنا» اهـ.
الآلوسي (ت ١٢٧٠هـ)
وقال الآلوسي V([93]): «وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد إذ لا امتناع في أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]. وقوله O كما في صحيح البخاري «شكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعصا فأذن لها بنفسين نفس في الشاء ونفس في الصيف» إلى غير ذلك» اهـ.
عبد الحي اللكنوي (ت ١٣٠٤ هـ)
وقال عبد الحي اللكنوي V([94]): «قوله: «اشتكت» حقيقة بلسان الحال، كما رجَّحه من فحول الرجال ابن عبد البر وعياض والقرطبي وابن المنير والتوربشتي، ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال، قاله الزرقاني... قوله: «نفس في الشتاء» … إلخ، لمسلم زيادة: «فما ترون من شدّة البرد فذلك من زمهريرها، وما ترون من شدة الحرّ فهو من سمومها». قال عياض: قيل: معناه إذا تنفَّسَتْ في الصيف قوّى لَهَبُها حرَّ الشمس، وإذا تنفَّستْ في الشتاء دفع حرُّها شدة البرد إلى الأرض. وقال ابن التين: فإنْ قيل كيف يجمع بين البرد والحر في النار؟ فالجواب: أنّ جهنّم فيها زوايا فيها نار، وزوايا فيها زمهرير، وقال مغلطائي: لقائل أن يقول الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدَّين في محل واحد، كذا في «التنوير»...» اهـ.
الدمناتي البوجمعاوي (ت 1306 هـ)
وقال الدِّمْناتي البُوجُمْعاوي V([95]): ««وَاشْتَكَتِ النَّارُ»، وللإسماعيليِّ: «وأشكت» فهل شكواها بلسان مقالٍ فرجَّح أو حال مجازًا عن غليانها قولان. «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا» مجازٌ عن ازدحام لهبها. «نَفَسٍ» بنون ففاء فسين، كـ«سبب» ما يخرجُ من جوف ويدخلُ به من هواءٍ، وهو بجره بدل ويرفع وينصب. «أَشَدُّ» برفعه خبر مبتدأ حذف، وللإسماعيليِّ: «فهو أشدُّ». «الزَّمْهَرِيرِ»: شدَّة برد. فائدة: لم يؤمر بتأخير لشدَّة بردٍ؛ لأنَّه من فيحها إذ لا يشتدُّ إلَّا بوقت الصُّبح فلا يزال إلَّا بطلوع الشَّمس فلو أخَّرت لخرج وقتها».
السهارنفوري (ت ١٣٤٦ هـ)
وقال خليل السهارنفوري V([96]): ««ثم قال: إنَّ شدّة الحرّ من فيح جهنم»، أي: من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح أي متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحرِّ في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل: هو من مجاز التشبيه أي كأنه نار جهنم في الحر، والأول أولى، ويؤيده الحديث الآتي: «اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين» «فتح». وهذا تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث مسلم حيث قال: «أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم». وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب، فكيف أمر بتركها؟ وأجاب عنه أبو الفتح بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه. واستنبط له الزين بن المنير معنى يناسبه فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلَّا من أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا ودعاءً فناسب الاقتصار عنها حينئذ، واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم سوى نبينا O فلم يعتذر، بل طلب لكونه أذن له في ذلك. قلت: وهذا التعليل يرد قول الشافعية في تأويل هذا الحديث بأنه O أخّرها ليجمعها مع العصر، فإن التأخير المندوب إليه لا يختص بالسفر، وأما الجمع بين الصلاتين فمختص به، فيثبت بذلك الحديث ما قاله أبو حنيفة V تعالى مِن أنّ وقت صلاة الظهر يبقى بعد ما يصير ظل كل شيء مثله. «فإذا اشتد الحر» أصله اشتدد بوزن افتعل من الشدة، ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى» اهـ.
محمد أنور شاه الكشميري (ت ١٣٥٣ هـ)
وقال محمد أنور شاه الكشميري V([97]): «قوله: «من فيح جهنَّم»... فإِنْ قلت: إنَّ الحَرَّ تابعٌ للشمس في الحسِّ والمشاهدةِ فما معنى تبعيته لجهنَّم؟ قلتُ: والشمس تابعة لجهنَّم ولا يَبْعُد أَنْ يكونَ إلقاءُ القمرين فيها يومَ القيامةِ لهذه المناسبة، والوجه المعروف وإلقاؤهما مشهور. وتفصيلُ المقام أَنَّ الأَسبابَ إمَّا ظاهرة أو معنوية، والأُولَى معلومةٌ بالحسِّ والمشاهدةِ لا حاجةَ إلى التنبيه عليها، وإنَّما تدلُّ الشريعة على أسبابٍ معنويةٍ غير مدرَكة بالحسِّ، وهو الذي يليقُ بشأنِها، فدلَّت على أنَّ معدن الخير والسرور كلها هو الجنَّة، ومعدن المهالك والشرور كلها هو جهنَّم، فالخِزَّانة هي في الجنة والنَّار، وهذه الدارُ مركبة من أشياء المعدنين وليست بخِزَانة في نَفْسِها، فالحرارَة وإِنْ كانت في النَّظرِ الحسي مِنْ أَجْلِ الشمس، إلا أنَّها في النظر الغَيْبيّ كلها من معدنها، فإِذا رأيتهما أينما كان فهي من معدنها.
فإِنْ قُلْتَ: إِنَّ الصيفَ والشتاءَ إذا دارا على النَّفَسين، فينبغي ألا يكون شتاءً عند نفسِ الصيف، وبالعكس، مع أنَّهما يجتمعانِ في زمنٍ واحدٍ باعتبارِ اختلافِ البلاد. قلتُ: ولعلَّ تَنَفُّسها بحرِّها من جانب وإِرْسَالها إلى الآخر، فإِذا تَنَفَّس مِنْ جانب صارَ شتاءً وإلى جانب صار صيفًا؛ ولعلَّ الحرَّ والبردَ كيفيتان لا تتلاشيان أصلًا بل إذا غَلَب الحرُّ دَفَعَ القَرّ إلى باطنِ الأرض، وإذا غلب القَرُّ دَفَع الحرَّ، إلى باطنها، لا أَنَّ إِحدى الكيفتين تَنعَدِم عند ظُهورِ الأخرى، وهذا كما في الفَلْسَفَة الجديدةِ أَنَّ الحركاتِ كلَّها لا تَفْنَى بل تَنتَقِل إلى الحرارة. والأصوات كلُّها مِنْ بدء العالم إلى يومِنا هذا موجودة عندهم في الجو فالشيء بعد ما وجِدَ تأَبَّد عندَهم. وأَمَّا عند اليونانيين: فلا حَرارةَ عندهم في الأجسامِ الأثيرية ولا بُرودة... والذي يتبين أَنّ ما هو من آثارِ الغضبِ هو التَّسْجِير دون الفيح، ولهذا المعنى نُهِيَ عن الصَّلاة عندما يستقِل الظِّل بالرمحِ، كما يدل عليه ما أخرجه مسلم: ثُمَّ اقْتُصِر عن الصَّلاةِ فإِنَّ حينئذ تَسْجُر جهنَّم، فإِذا قِيل الفيءُ فصلِّ. انتهى. وفي حديثِ البابِ إحالة على الفيح دون التسجير، ولعلَّ الفيحَ من آثارِ الرحمة، لأنَّه من أَثَرِ تنفسِ جهنَّم، فلو كان الفيحُ من آثارِ الغضبِ، لَزِمَ أَنْ يكونَ موسمُ الصيف كلُّه أثرًا للغضب، فإِنَّ الصيفَ كلَّه من أجل فَيْحِ جهنم، وحينئذٍ لا تكون في الصَّلاةِ بعدَ الزوال كراهة أصلا، وإِنَّما أُمِرنا بالإِبراد شَفَقَة ورحمة. وحاصلُ التعليل: أَنِ اربعوا على أنفسكم فلا تصلوا في شِدَّةِ الحرِ التي تكون من أجل الفيح، فالتعليل بالحقيقة بشدة الحر وهو أمرٌ حسي فيكون مُشْعِرًا بكونِهِ للشفقة كما قررنا. أما قوله: «مِنْ فيحِ جهنم» فبيان للسبب الغَيْبيّ للحرَارة، ولا دَخْلَ له في التعليل، ويؤيدهُ أَنَّ النَّبي O صلّى بعد الزَّوالِ وقال: «ويفتح عند ذلك أبوابُ السماءِ فأُحِبُّ أَنْ يَصعَد لي فيه عَمَل» أو كما قال. فدلَّ على انتهاءِ أَثَرِ التسجيرِ بالزوال، وعدمِ كراهةٍ بعده، وأنَّ أَمْرَ الإِبراد لأجلِ الشفقة فقط. فإِنْ قلتَ: إذا كان في الصَّلاةِ عند التَّسجيرِ تعريضٌ لها بَرَدّها لكونِه مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، فكيفَ بصلاتِهِ O عند رؤيةِ آثارِ الغضب، فإِنَّه كُلَّما كان يَرى مَهْيَعة بادرَ إلى الصَّلاةِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ السنةَ عند غضبه تعالى، هو الالتجاءُ بالصَّلاة. قلت: فهذه حالات قد تكون بالصَّلاةِ عند السُّخْطِ تعريض لها بالرَّد، وقد تكونُ بفعلها التجاء إليه، وهكذا هو في الدنيا، قد تكونُ عاقبةُ العبدِ بالانسلالِ عن مواجَهةِ مولاه، وقد تكونُ بالخدمةِ له والتملقِ إيَّاه، فقسم النبي O ههنا أيضًا على الحالات، فما كان من آثار غضبهِ كل يومٍ رأَى الملجأ منه بعَدَمِ المواجهةِ في ذلك الوقت، والتنكبِ إلى جانب، وما كان نادرًا لم يَرَ منه ملجأً إلا إليه، فهذه حالاتٌ تَشْهَدُ بها الفِطرَة السليمة.
ولم يرض الترمذي بهذا التأويل مع كونِه شافعيًا، ولم يصرِّح بخلافِه مع إمامه في موضع من كتابه إلا هذا، فقال: قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر -وهم الحنفية رضي الله عنهم- في شدَّةِ الحرِّ هو أولى وأشبه بالاتباع. وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي V تعالى أَنَّ الرخصةَ لمن ينتابُ مِنَ البُعدِ وللمشقة على الناس فإِنَّ في حديث أبي ذرٍ ما يَدلُّ على خلافِ ما قال الشافعي V تعالى، قال أبو ذر رضي الله عنه: كنَّا مع النبي O في سفرٍ فأَذَّنَ بلال رضي الله عنه بصلاةِ الظُّهر فقال النبي O: «يا بلال أَبْرِد ثُمَّ أبرد». فلو كان الأمرُ على ما ذهبَ إليه الشافعي V تعالى، لم يكن للإِبرادُ في ذلك الوقت معنىً، لاجتماعهم في السفرِ، وكانوا لا يحتاجون أنْ ينتابوا من البُعد. انتهى» اهـ.
عبد الرحمن المباركفوري (ت ١٣٥٣ هـ)
وقال عبد الرحمن المباركفوري V([98]): ««فإن شدة الحر من فيح جهنم»، أي: من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح، أي: متسع، وهذا كناية عن شدّة استعارها، وظاهره أنّ مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل: هو من مجاز التشبيه، أي: كأنّه نار جهنّم في الحرّ، والأول أولى، ويؤيده حديث أبي هريرة: «اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف»، قال صاحب «العرف الشذي» -ما لفظه-: «ها هنا سؤال عقلي وهو أن التجربة أن شدة الحر وضعفها بقرب الشمس وبعدها فكيف إن شدة الحر من فيح جهنم؟ قال: فنجيب بما يفيد في مواضع عديدة وهو للأشياء أسباب ظاهرة وباطنة، والباطنة تذكرها الشريعة، والظاهرة لا تنفيها الشريعة، فكذلك يقال في الرعد والبرق والمطر ونهر جيحان وسيحان. انتهى. قلت: هذا الجواب إنما يتمشّى فيما لا تخالف بين الأسباب الباطنة التي بينتها الشريعة وبين الأسباب الظاهرة التي أثبتها أرباب الفلسفة القديمة أو الجديدة، وأما إذا كان بينهما التخالف فلا تفكر» اهـ.
محمَّد الخَضِر النقيطي (ت ١٣٥٤هـ)
وقال محمَّد الخَضِر الجكني الشنقيطي V ([99]): ««واشتكت النار»، وفاعل قال هو النبي O، وهو بالإِسناد المذكور قبلُ، ووهم من جعله موقوفًا أو معلقًا. واختُلِف في هذه الشكوى هل هي بلسان القائل؟ ولا تحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم، أم في محاجّة النار؟ فلابد من وجود العلم مع الكلام، لأن المحاجّة تقتضي التفطن لوجه الدلالة، أو بلسان الحال، واختار كلاًّ طائفة. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح. وقال عياض: إنه أظهر، وقال القرطبيّ: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمْلُه على حقيقته أولى. وقال النوويُّ نحو ذلك، ثم قال: حَمْلُه على حقيقته هو الصواب. ورجح البيضاويّ حمله على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة، لصلاحية القدرة لذلك، وقد ورد مخاطبتها للرسول O للمؤمنين بقولها: «جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورُكَ لهبي». ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن ولقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيدٌ من المجاز، خارج عما أُلف من استعماله. وقوله: «بنَفَسين»، بفتح الفاء، والنفس معروف، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء. وقوله: «نَفَس في الشتاء، ونفس في الصيف»، بالجر فيهما على البدل والبيان، ويجوز الرفع على الخبرية، النصب بفعل مقدر، أي: أعني، وقوله: «أشد ما تجدون من الحر»، يجوز في أشد الكسر على البدل، لكن الرواية بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فذلك أشد. وقال الطيبيّ: جَعْل أشد مبتدأً محذوفَ الخبر أولى، والتقدير: أشد ما تجدون من الحرّ من ذلك النفس، ويؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: «فهو أشد»، ويؤيد الثاني رواية النسائي بلفظ: «فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم». وقوله: «أشد ما تجدون من الزمهرير»، أي: من ذلك النفس، وفي أشد الأوجه الثلاثة السابقة، والزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال ولا مانع من حصول الزمهرير من نَفَس النار، لأن المراد من النار محلها، وهي جهنم، وفيها طبقة زمهريرية، والذي خَلَق المَلَكَ من الثلج والنار، قادر على جمع الضدين في محل واحد، وفي سياق المصنف لفٌّ ونشر غير مرتّب، وهو مرتب في رواية النَّسائيّ، وفي الحديث رد على من زعم، من المعتزلة وغيرهم، أن النار لا تُخلق إلا يوم القيامة، والتعليل المذكور يفهم منه مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد؛ لأنها تكون غالبًا في وقت الصبح، فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخّرت لخرج الوقت، والتنفس المذكور ينشأ عنه أشد الحر في الصيف، وإنما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده، لوجود المشقة عند شديده أيضًا، فالأشدية تحصل عند التنفس، والشدة مستمرة بعد ذلك، فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدة» اهـ.
الطاهر ابن عاشور (ت ١٣٩٣ هـ)
قال الطاهر ابن عاشور V -في تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: 12]([100])-: «… وإسناد الرؤية إلى النار استعارة والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى: ﴿رَأَتْهُمْ﴾، رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازا عقليًّا. والتغيظ: شدة الغيظ. والغيظ: الغضب الشديد، وتقدم عند قوله: عضوا عليكم الأنامل من الغيظ في سورة آل عمران. فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلّف الفعل مستعملة مجازًا في قوّته لأنّ المتكلّف لفعل يأتي به كأشد ما يكون. والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل: سمعوا فهو تشبيه بليغ. والزفير: امتداد النفس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتا كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضا. ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكًا للمرئيّات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا. وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30]، وقول النبيء O: «اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء» رواه في «الموطأ»، زاد في رواية مسلم: «فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها»» اهـ.
عبيد الرحمن المُبَارَكْفُوريّ (ت ١٤١٤ هـ)
وقال عبيد الرحمن المباركفوري V([101]): ««فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنم» بفتح فاء وسكون ياء ثم حاء مهملة، أي: من سطوع حرّها، وسعة انتشارها، وتنفسها. ومنه مكان أفيح، أي: متسع، وأرض فيحاء أي: واسعة، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقية، وقيل: بل هو على وجه التشبيه والاستعارة، وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه، واجتنبوا ضرره، والأول أولى، ويؤيده قوله: اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين. قال النووي: هو الصواب، لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره. واستبعد هذا، بل استشكل لأن اشتداد الحر في الأرض تابع لقرب الشمس وبعدها كما هو المشاهد المحسوس. وأجيب بأنه يمكن أن يكون الشمس بحيث أن جعل الله تعالى بين مادة جرمها وبين جهنم ارتباطاً وعلاقة ومناسبة تقبل بها الشمس حرارة نار جهنم حتى تكون حرارة الشمس سببًا لاشتداد الحر في الأرض في الظاهر، وحينئذ فلا استبعاد في نسبة اشتداد الحر في البلاد إلى فيح جهنم لأنه هو السبب الأصلي الباطني الغيبي لذلك، والله تعالى أعلم. والفاء في «فإن» لتعليل الإبراد، أي: وعند شدّته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها... «واشتكت»جملة مبنية للأولى وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ﴾ [البقرة: 74]، «النار إلى ربها» شكاية حقيقية بلسان المقال بحياة وإدراك خلقهما الله تعالى فيها، وقيل: مجازية عرفية بلسان الحال. قال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح، وقال عياض: إنه الأظهر، والله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تكلم أو يخلق لها كلاما يسمعه من شاء من خلقه. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته، وإذ أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمْله على حقيقته هو الصواب، وقال: نحو ذلك التوربشتي، ورجّح البَيْضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضاً مجاز عن ازدحام أجزاءها بحيث يضيق مكانها عنها فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانه، وتنفسها مجاز عن لهبها وخروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإنْ عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط. بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله، «فأَذِن لها بنَفَسين» تثنية نفس، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء، «نفس» بالجر على البدل أو البيان، ويجوز الرفع بتقدير أحدهما، «أشد ما تجدون من الحر» برفع «أشد» على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشد ما تجدون، أو مبتدأ خبر محذوف أي: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس، ويجوز الجر على البدل من النفس المجرور، والنصب بتقدير: أعني، وعلى كلٍّ، تقدير «فما» إما موصولة أو موصوفة، «ومن الحرّ ومن الزمهرير» بيانٌ، «وأشد ما تجدون من الزمهرير» أي: شدة البرد ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار لأن المراد بالنار محلها، وهو جهنم وفيها طبقة زمهريرية. «وفي رواية للبخاري فأشد ما تجدون من الحر» إلخ. لم أجد هذه الرواية في البخاري، نعم رواها مسلم والترمذي وابن ماجه بنحوها «فمن سمومها» بفتح السين المهملة، الريح الحارة «فمن زمهريرها» أي: من أثر طبقتها الباردة» اهـ.
([3]) انظر: «الإفصاح عن معاني الصحاح» لابن هُبيرة (6/ 166)، و«الشافي في شرح مسند الشافعي» لابن الأثير (1/ 380)، «الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات» (ص 261)، و«فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود» (5/ 7) (402).
([6]) واعلم؛ أن المتابعات التي ساقها الحافظ ابن حجر وكذا ابن رجب في شرحهما للحديث، إنما هي لحديث «الإبراد» خاصة؛ فتنبّه
([12]) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 1/ 542 (2051)، وأحمد في «المسند» 13/ 532 (8221)، ومسلم (615) (183)، وأبو عوانة في «المستخرج» 1/ 289 (1018).
([15]) أخرجه ابن وهب في «الموطأ» (323)، وفي الجامع له (317)، والشَّافعيّ في الأم 1/ 91، وأبو داود الطيالسي في مسنده 4/ 56 (2421)، وأحمد في المسند 13/ 54 (7613)، والدارمي في مسنده (1207)، ومسلم (615) (180)، وأبو داود (402)، وابن ماجه (678)، والترمذي (157)، والنسائي (500) من طريق أبي سلمة وابن المسيب. وأخرجه الشافعي في الأم 1/ 91، والحميدي في مسنده 2/ 420 (942)، وأحمد في المسند 12/ 188 (7246)، والبخاري (536) من طريق ابن المسيِّب وحده. وأخرجه أحمد في المسند 16/ 302 (10506)، والنسائي في الكبرى 2/ 191 (1499)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 186 (1117) من طريق أبي سلمة وحده.
([16]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 542 (2048)، وابن أبي شيبة في المصنف (3300)، وأحمد في المسند 14/ 244 - 245 (8584).
([17]) وكذلك رواه محمد بن سيرين عن أبي هريرة، أخرجه أحمد في المسند 12/ 31 (7130)، ورواه عبد الرحمن بن يعقوب الجهني، أخرجه أحمد في المسند 15/ 194 (9335)، ومسلم (615) (182)، وموسى بن يسار أخرجه البزار في مسنده 15/ 41 (8243).
([18]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35274)، وابن ماجه (4319) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، بلفظ: «… فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدَّة ما تجدون في الصيف من الحرِّ من سَمُومها»، ولفظه عند أحمد في المسند 16/ 318 (10538)، والبخاري (3260)، ومسلم (617) من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: «فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير».
([19]) وذلك أنّ الإرادة إنما تكون في الحيوان المُبين -أي الإنسان- والجدارُ لا يريد إرادة حقيقية، إلّا أن هيأته للسُّقوط قد ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين، فوُصف بالإرادة إذ الصورتان واحدة، وهذا كثير في الشعر واللغة؛ قاله الزَّجاج في معاني القرآن وإعرابه 3/ 306.
([26]) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 131) (7599). وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 153): «فيه الأحوص بن حكيم ضعفه النسائي وغيره، ووثقه العجلي ويحيى بن سعيد القطان في رواية، ورواه عن الأحوص محمد بن الفضل بن عطية، ضعيف». وقال ابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 95): «هذا الحديث لا يصح، لأن محمد بن الفضل قد كذبه يحيى بن معين والفلاس وغيرهما، وقال أحمد بن حنبل: ليس بشيء، وإنما وضع هذا من في نيته الكذب».
([32]) «المفاتيح في شرح المصابيح» لمظهر الدين الحسين بن محمود بن الحسن الشِّيرازيُّ الحَنَفيُّ المشهورُ بالمُظْهِري (2/ 22).
([39]) «التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح» أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي، شرح حديث (536).
([46]) قال محقق الكتاب: وهذا كله على رواية أبي ذر والأصيلي وأبي الوقت التي اعتمدها المؤلف هنا، ووقع في «اليونينية»: «فهو أشد».
([51]) سبق في التخريج مناقشة شيءٌ من ذلك، وهو الذي دفع هؤلاء القائلين لذلك، ولكن من قال بأنّه معلق؟ فلينظر، وسيأتي أن النعماني يتابع الحافظ في هذا النقل.
([52]) «شرح مصابيح السنة للإمام البغوي» لمحمّد بن عز الدین عبد اللطيف الحنفي المشهور بابن المَلَك (1/ 371).
([53]) «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» لبدر الدين محمود بن أحمد بن موسى العِينْتابي الحَنَفي (5/ 23).
([58]) «الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري» لأحمد بن إسماعيل بن عثمان الشافعيّ ثم الحنفي (2/ 212).
([60]) أي: ملحظ خفي، وفكرة لطيفة مؤثرة، ومسْألة علمية دقيقة. انظر: «المعجم الوسيط» (2/ 950) مادة (نكت).
([62]) الزيادة لابن السُّنِّي، والحديث أخرجه الدارمي في «نقضه على المريسي» (ص 115) (61)، وابن السُّنّي في «عمل اليوم والليلة» (ص 265) (306)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 459) (387)، وعنه ابن كثير في «البداية والنهاية» (20/ 175) ت التركي، من حديث أبي هريرة، من طريق دراج عن أبي الهيثم، ودراج أبو السمح في حديثه عنه ضعف كما ذكر الإمام أحمد وغيره، وقال أحمد: «منكر»، وكذلك قال النسائي، وقال الدارقطني: «متروك». والذين مَن دونه في الإسناد لا يخلون من مقال.
وأخرجه أبو القاسم الجرجاني السهمي في «تاريخ جرجان» (ص 486) (978) من حديث أبي موسى، عن أَبي عمرَ، لاحِقَ بْنِ الْحُسَيْنِ الصَّدْرِيِّ، ولاحق هذا دجال، راجع ترجمته في «لسان الميزان» (8/ 407) (8400).
وبعد أن كتبت جميع ما سبق كله، رأيت الألبانيَّ أورده في «الضعيفة» (13/ 950) (6428) وقال: «منكر» اهـ، والحمد لله رب العالمين. وانظر: «كشف الخفاء» (2/ 426) (2982).
([63]) «حاشية على صحيح البخاري» لأبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهیر بِزروق، شرح ح (537).
([67]) (8988، 9280)، والبزار في «مسنده» (1822) بمعناه.
قال الهيثمي: «رواه الطبراني في «الكبير» وإسناده حسن، وله طريق تأتي في (الأوقات التي يكره فيها الصلاة)». «المجمع» (1/ 307) (1704)، وحسَّنه أيضًا الزرقاني «في شرح الموطأ» (1/ 112)، وأخرجه السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 81) وزاد نسبته لسعيد بن منصور.
([78]) «غاية التوضيح في شرح الجامع الصحيح» للصديقي عثمان بن عيسى بن إبراهيم الحنفي البوبكاني السندي.
([81]) «لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح» لعبد الحق بن سيف الدين بن سعد اللَّه البخاري الحنفي (2/ 349).
([95]) «روح التوشيح على الجامع الصحيح» لأبي الحسن علي بن سليمان الدمناتي البوجمعاوي، أبي الحسن المغربي.
([98]) «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» لأبي العُلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى (1/ 414).
- زەخیرەکردن
- 6 ساڵ لەمەوپێش
- 0 جار بینراوە