کتێبخانە

التوضيحات الأثرية للمدرسة العصرانية

 

 

 

 

 

 

 

 

التَّوْضِيحَاتُ الأَثَريَّة

لِلْمَدْرَسَةِ العَصْرَانِيَّة

 

هذا الكتاب عبارة عن جميع الدروس التي ألقيت في دورة: «محاسن

الإسلام»، مادة: «نقض أصول العقلانيين».

 

 جَمَعَهُ وَهَذَّبَه أَفْقَرُ العِبَادِ إِلَى اللَّهِ

أَبُو عَبْدِ اللهِ عَلِي خَان

 

تمهيد

«الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيَوْه، وكم من ضالٍّ تائهٍ هَدَوْه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، الذين عقدوا ألويةَ البدعة، وأطلقوا عِقالَ الفتنة، فهُم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متَّفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علمٍ، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناس بما يشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلِّين..». والصلاة والسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم القائل -فيما يروى عنه-: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ».

أما بعد:

فقد اقتضت حكمة الله عز وجل لهذه الرسالة الخالدة، أن تكون هي خاتمة الرسالات، حتى يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها، وانقطاع النبوة بعد نبينا محمد g، خلافاً للأمم السابقة، وخاصة أمة بني إسرائيل، حيث لم تنقطع النبوة فيهم، كما في الحديث: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي...».

وقد هيأ الله تعالى لهذه الأمة علمائها لقيادة الأمة، خاصة عند الملمات، فاختار لها من العلماء العاملين مَنْ يقودهم ويرشدهم إلى الحق، لتكون حجة الله قائمة بهم إلى قيام الساعة، فهم  وراث  النبوة، وهم النجوم يهتدى بها في الظلمات، فقيَّض الله لدينه الخاتم عند رأس كل مئة عام من يقوم بتجديد معالمه، وإحياء ما اندرس منه.

 

وقد قام العلماء العاملون بمهمة «تجديد الدين» بأصوله وضوابطه حق القيام منذ فجر الاسلام، وإلى اليوم، مدافعين عن الدين الحق، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين.

والكلامُ في (العقلِ) و(العُقلاءِ) و(العَقْلَنَةِ) -وما يُشتَقُّ منها-: كلامٌ يستهوِي الكثيرَ مِن النَّاسِ، ويروجُ عليهم، ويَنْسَلُّ إليهم؛ لِـمَا يَحْوِيهِ مِن مَعانٍ برَّاقةٍ لها جانبٌ (ظاهرٌ) مِن الحقِّ الصَّريح! لكنَّها تُخفِي بَيْنَ طَيَّاتِها جوانِبَ مِن الباطلِ القبيح!!

ولقد امتدَحَ ربُّنا -سُبحانَهُ- عبادَهُ الصَّالحِينَ في مواضعَ مِن كتابِهِ؛ بِحَثِّهِم على الفهم والعقلِ -مصدرُ (عَقَلَ، يَعقِلُ)، وليستْ اسماً-. وذَكَرَ (العقلَ) في القُرآنِ في معرِضِ المدحِ لأهلِهِ في مواضعَ يطولُ عدُّها، وهو جديرٌ بالمدحِ الكاملِ؛ لأنَّه القاعدةُ التي ينطلقُ منها كُلُّ إنسانٍ في الوعيِ عن الله أحكامَهُ وعقائدَهُ؛ إذ هو بمثابةِ الدليلِ، فلولاهُ لَـمَا أجْدَى سَمْعٌ، ولَـمَا أغْنَى بَصَرٌ؛ فسَمْعٌ بلا عَقْلٌ، هو لحمةٌ صمَّاءُ، وبَصَرٌ بلا عَقْل هو جُنونٌ مُطْبِق:

ومنذُ فجرِ الإسلامِ، نَبَتَتْ نَوابتُ قدَّسَت العقلَ، ونَصَّبَتْهُ مُشَرِّعاً ومُحكِّماً؛ فإذا جاءَ شَرعٌ لمْ (يفهمْهُ) عقلٌ: رُدَّ الشَّرْعُ!! وإذا تعارضَ عقلٌ قاصِرٌ مَعَ نَصٍّ ظاهرٍ: حُرِّفَ النَّصُّ، بل عُطِّلَ، وأُبْطِلَ!!

و«إنَّ هذه المُعارضَةَ بين العقلِ والنَّقْلِ هي أصلُ كُلِّ فسادٍ في العالَمِ، وهي ضدُّ دعوةِ الرُّسُل مِن كُلِّ وَجْهٍ؛ فإنَّهُم دَعَوْا إلى تقديمِ الوَحيِ علَى الآراءِ والعُقولِ، وصارَ خُصومُهُم إلى ضدِّ ذلك. فأتباعُ الرُّسُلِ قدَّمُوا الوَحيَ على الرَّأْيِ والمعقول، وأتْباعُ إبليسَ -أو نائبٍ مِن نُوَّابِهِ- قدَّمُوا العقلَ على النَّقْل!».

وقال  الشاطبيُّ: «إنَّ اللهَ -سُبحانَهُ- جَعَلَ للعُقولِ في إدراكِها حدًّا تنتهِي إليه لا تتعدَّاهُ، ولمْ يجعلْ لها سبيلاً إلى الإدراكِ في كُلِّ مطلوبٍ».

وقالَ الشَّهْرَسْتانِيُّ: «اعْلَمْ أنَّ أوَّلَ شُبهةٍ وَقَعَتْ في الخَلْقِ شُبهةُ إبليس، ومَصدَرُها استبدادُهُ بالرَّأيِ في مُقابلةِ النَّصِّ، واختيارُهُ الهَوَى في مُعارضَةِ الأمرِ، واستكبارُهُ بالمادَّةِ التي خُلِقَ منها -وهي النَّارُ- على مادَّةِ آدَمَ- وهي الطِّينُ-! وتشعَّبَتْ عن هذه الشُّبْهَةِ شُبُهاتٌ!!».

ولمْ يَكْتَفِ أولئكَ بهذا الغَيِّ الذي أثْقَلُوا عُقولَـهُم به؛ لِيَصُدُّوا عن أنفُسِهِم رُدودَ أهلِ الحقِّ عليهِم! لا؛ ولكنَّهُم زادُوا الأمرَ ضِغْثاً على إبَّالةٍ باتِّهامِهِم أهلَ الحقِّ بإهمالِ العقلِ.. والجَهْلِ.. والجُمودِ.. وسذاجَةِ الفَهْمِ.. و.. و.. إلى غيرِ ذلكَ مِن ألقابٍ هُم أوْلَى بها وأهلُها!!

وأُولاءِ (العقلانِيُّون): سلسلةٌ انْقَدَحَتْ شرارتُها منذُ عهدِ المُعتَزِلَةِ الأُوَلِ، ثُمَّ لَمْ يَخْبُ أُوارُها إلى هذه السَّاعةِ، فتلقَّفَها المُبتدِعَةُ والمُنحَرِفُون، و(قَفَزَ) إليها المتحلِّلُونَ والمُتهوِّكُون؛ كُلٌّ يُنادِي بها، ويَدْعُو إليها، ويتغنَّى بليلاها، لكنْ؛ بألوانٍ مُتغيِّرَةٍ، وأثوابٍ مُزَرْكَشَةٍ، واتِّجاهات مُتعاكِسةٍ، وألفاظٍ مُنَمَّقَةٍ!

وهذا -كُلُّهُ- ممَّا يُغَرِّرُ ذوي العقول القاصِرَة، ويُبهِرُ ذوي الأنظارِ الضَّعِيفةِ، الذين يَحسَبُونَ كُلَّ لامعٍ ذَهَباً!!

لذلك؛ فإنَّنَا رأَيْنا عدداً مِن عامَّةِ النَّاس، على رؤوس الأشهاد وفي القنوات وفي وسائل التواصل؛ قليلي الفَهْم، كليلي النَّظَر، لا يفهَمُونَ شَرعاً، ولا يعقِلُونَ لُغَةً، ومع ذلك (تسرَّبَتْ) إليهم -مِن أولئكَ الزَّاعِمِين (العقلَ)- تلك الخُدعَةُ (العقلانيَّةُ) الجاهلةُ، أناس يدعون التجديد والقراءة الجديدة للنصوص، وتحكيم العقل على النصوص، يدَّعون أنهم يفسرون القرآن بطريقة حديثة وعصرية، ويعيد فهم الثوابت والأصول بآليات جديدة لا عهد للمسلين بها:

فكَم سَمِعْنا مِن مُعترضٍ على ما صحَّ مِن السُّنَّةِ النَّبَوِيَّة!

وكمْ سَمِعْنا مِن مُنتقدٍ نصًّا شرعيًّا (مُتواتِراً)!

وكمْ سَمِعْنا مِن رادٍّ قاعدةً دينيّة!

وكمْ سمِعْنا مِن عامِّيٍّ لا يعرفُ قَطاتَهُ مِن لَهاتِهِ يستدرِكُ على الكِبار!

وكمْ سَمِعْنا مِن (نصفِ متعلِّم) يَعْلُو (بصوتِهِ) نَقْضاً لعقائدَ أصليَّةٍ مُسلَّمةٍ!

وكمْ سَمِعْنا مِن (شِبْهِ مُثقَّفٍ) -خَلا له الجوُّ- فأرغَى، وأزْبَدَ، واشتدَّ... حتَّى (تكادَ) أمعاؤُهُ تتقطَّعُ!

ويزعمون أن الميراث في القرآن للذكر مثل الأنثى سواء بسواء..

وأن الصحابة ومن بعدهم حتى يومنا هذا لم يفهموا الآية بل الآيات على الوجه الصحيح!!

وأن الزكاة والصيام والجهاد غير متفق مع الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية!!

فالشعائر الإسلامية مضادة للفطرة الإنسانية!!

وأنه لا يمكن أن نفهم أي نص لغوي إلا على نحو يقتضيه العقل فقط!!

وأن النساء التي أفردت لهنّ سورة في القرآن ليس المقصود بها المرأة والأنثى وإنما ما استجدَّ من الأشياء!!

وأن الفجر الوارد في سورة الفجر هو الانفجار الكوني!!

وأن الله تعالى لا يعلم تفاصيل الأشياء وخفاياها، وإنما علمه علمٌ عامٌّ كلّيٌّ شمولي!! أو رياضي بحت!! كما يحلو له أن يعبِّر.

وأن حد السرقة هو كفّ يده عن المجتمع بسجنه!!

وأن الإنسان تطوّر عبر مراحل كثيرة حتى وصل إلى قالبه الحالي!!

وأن العورة هو ما استتر خِلقة، أي: ما كان بين العورة!! فلا تحتاج المرأة للبس شيء حتى تستر نفسها فضلًا عن العباءة، فضلًا عن غطاء الرأس، فضلًا عن غطاء الوجه!!

وأن قصة إبراهيم كانت من السيناريوهات.

وأن الجنة والنار من المجازيات.

فقل لي بربك: ماذا لو ادعى أحد أن الجاذبية التي اكتشفها نيوتن يقصد بها الانجذاب العاطفي الذي يحصل بين الفتاة والفتى، لا ما يذكره الفيزيائيون المتخصصون!!

وأُولئِكَ (العقلانيُّونَ) -القُدَماءُ منهم والمُحْدَثُون- لا زِلنا نَسمعُ مَن يُلمِّعُهُم، ويُفخِّمُ شأنَهُم، ويُعظِّمُ أمرَهُم، فيقولُ فيهِم واصِفاً مُبجِّلاً: الأُستاذُ... الدُّكتور... الدَّاعِيَة ... الفيلسوف... المُفكِّر... المثقِّف! إلى آخرِ ألقابهم التي لا تحملُ شيئاً ممَّا تَدُلُّ عليه أكثرَ مِن وَزْنِ المِدادِ!

وما أجملَ ما قالَهُ بعضُ الكُتّاب المُعاصِرِين -في ذا-: «إنَّ للعقلِ البشريِّ وزنَهُ وقيمتَهُ بوَصْفِهِ أداةً مِن أدواتِ المعرفةِ والهدايةِ في الإنسانِ.. هذا حقٌّ؛ ولكنَّ هذا العقلَ البشريَّ هو عقلُ الأفرادِ والجماعاتِ، في بيئةٍ مِن البيئات، متأثِّراً بشتَّى المُؤَثِّرات... ليسَ هُناكَ ما يُسمَّى (العقل البشريّ) [أو (العقل الكليّ)، أو (العقل الأوَّل)، أو (العقل الأوحد)] كمدلولٍ مُطلَق [يكونُ أساساً يُبْنَى عليهِ غيرُهُ، ويكونُ حَكَماً -بين أُمورٍ مُختَلِفَةٍ- لا يُرَدُّ حُكْمُهُ]؛ إنَّما هُناكَ عقلي... وعقلُكَ... وعقلُ فُلان... وعِلاّن... وعقُولُ هذه المجموعةِ مِن البشرِ، في مكانٍ ما، في زمانٍ ما...

وهذه -كُلُّها- واقعةٌ تحتَ مُؤَثِّراتٍ شتَّى، تميلُ بها مِن هُنا، وتميلُ بها مِن هُناك.

ولا بُدَّ مِن ميزانٍ ثابتٍ، ترجعُ إليه هذه العُقولُ الكثيرةُ؛ فتعرفُ -عندَهُ- مَدَى الخطأِ والصَّوابِ في أحكامِها وتصوُّراتِها، ومدَى الشَّطَطِ والغُلُوِّ، أو التقصيرِ والقُصورِ في هذه الأحكامِ والتصوُّراتِ.

وقيمةُ العقلِ البشريِّ -هُنا- أنَّهُ الأداةُ المهيَّأَةُ للإنسانِ؛ لِيَعْرِفَ بها وَزْنَ أحكامِهِ في هذا الميزانِ الثَّابِتِ [الشَّرع الحكيم]؛ الذي لا يميلُ مع الهوَى، ولا يتأثَّر بشتَّى المؤثِّرات...».

وقد قالَ ابنُ تيميَّةَ: «ويكفيكَ دليلاً على فسادِ قولِ هؤلاءِ: أنَّهُ ليس لواحدٍ منهُم قاعدةٌ مستمرَّةٌ فيما يُحيلُهُ العقلُ؛ بل منهُم مَن يزعُمُ أنَّ العقلَ جَوَّزَ وأوجبَ!! ما يدَّعِي الآخرُ أنَّ العقلَ أحالَهُ!

فيا ليتَ شِعري: بأَيِّ عقلٍ يُوزَنُ الكِتابُ والسُّنَّةُ!؟

فرَضِيَ اللهُ عن مالكِ بنِ أنسٍ -حيثُ قالَ-: «أوَكُلَّما جاءَنا رجلٌ أجدلُ مِن رجُلٍ؛ تَرَكنا ما جاءَنا به جبريلُ إلى محمدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لِجَدَلِ هؤلاء!». {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}:

قال ابنُ تيميَّةَ: «إنَّ مواردَ النِّزاعِ لا تُفصَلُ بينَ المؤمنِينَ إلا بالكتابِ والسُّنَّةِ -وإنْ كانَ أحدُ المُتنازِعِينَ يعرفُ ما يقولُهُ بعقلِهِ-؛ وذلك أنَّ قُوَى العقُولِ مُتفاوتةٌ مُختلفةٌ، وكثيراً ما يشتبِهُ المجهولُ بالمعقول! فلا يُمكِنُ أنْ يَفْصِلَ بَيْنَ المُتنازِعينَ قولُ شخصٍ معيَّنٍ أو معقُولُهُ؛ وإنَّما يفصلُ بينهُم الكتابُ المُنزَّلُ مِن السَّماءِ، والرَّسُولُ المبعوثُ المعصومُ فيما بلَّغَهُ عن الله -تعالى-».

وخُلاصةُ القولِ: أن «العقلَ الصريحَ -دائماً- مُوافقٌ للرَّسُولِ-صلّى الله عليه وسلّم-، لا يُخالفُهُ -قطُّ-؛ فإنَّ الميزانَ مع الكِتاب، واللهُ أنزَلَ الكتابَ بالحقِّ والميزان، لكنْ؛ قد تَقْصُرُ عُقولُ النّاس عن معرفةِ تفصيلِ ما جاءَ به، فيأتِيهم الرّسولُ بما عَجَزُوا عن معرفتِهِ وحارُوا فيه؛ لا بما يعلمُونَ بُطلانَه! فالرُّسُلُ -صلواتُ الله وسلامُه عليهم- تُخبِرُ بمَحاراتِ العُقولِ، لا تُخبرُ بمُحالاتِ العُقول».

***

 

 

واعلم أن المدرسة العصرانية العقلانية الحديثة امتداد للمدرسة الإعتزالية القديمة، وذلك في أصولها ومناهجها، وأفكارها ومواقفها، فهي بحاجة إلى دراستها وتقيمها، وبيان خطورتها على الأمة بأفكارها الشاذة، وأطروحاتها الغريبة .

يقول د. ناصر العقل: «المعتزلة بأصولها ومناهجها وعقائدها وآرائها ومواقفها تتمثل بفرق قديمة وجديدة، واتجاهات ونزعات قديمة وجديدة، وليست فرقة من الفرق التي ظهرت في التأريخ ثم اندثرت كما يتوهم البعض».

بل المتأمل لواقع الأمة اليوم يجد أن المعتزلة نشطت في السنوات الأخيرة نشاطاً ملحوظاً على ثلاثة محاور متساندة:

المحور الأول: من خلال الفرق القديمة التي لا تزال قائمة إلي اليوم، والتي إما أن تكون في أصلها ونشأتها من فرق المعتزلة الكبرى كالزيدية......

والمحور الثاني: ظهور مذهب المعتزلة من خلال أحزاب وجماعات جديدة... من أبرزها حزب التحرير... وجماعة الترابي في السودان.

والمحور الثالث: الاتجاهات العقلانية والعصرانية والحداثية وغيرها، وتوجد هذه الاتجاهات لدى كثير من المفكرين والأدباء والمثقفين والدعاة الحزبيين وغير الحزبيين...ومن هؤلاء الروَّاد: محمد عبده في مصر، والسيد أحمد خان في الهند، ومحمد إقبال في باكستان والهند».

فالعصرانية العقلانية: مدرسة وحركة تجديدية قديمة في ثوب جديد، أُلبس لباس العصرانية كذباً وزوراً، تدعو إلي تطويع الدين واخضاعه إلى افرازات الحضارة الغربية الحديثة .

ويقول أ. محمد حامد الناصر: «والحقيقة إن العصرانيين يمثلون تياراً عاماً لم تكتمل ملامحه بعد، ولم تكن اجتهادات رجاله واحدة، وإنما يشتركون في ملامح عامة، وخصائص مشتركة عموماً، والعصرانيون ليسوا سواء، في منطلقاتهم وأهدافهم، وقد يلتقي معهم- في بعض المسائل- مَنْ ليس منهم ولا يوافقهم على كثير من غلوهم وجموحهم...والحقيقة أن هؤلاء ساروا على خطا مَنْ سبقهم من المعتزلة والاصلاحيين، ورددوا آراء المستشرقين، ونسبوا كل ذلك إلى أنفسهم...وما تزال محاولات العصرانيين جادة، للملاءمة بين حضارة الغرب، وتعاليم الشريعة الاسلامية، ويزعمون أنهم يريدون التجديد والتطوير، ويعتبرون أن تأخر المسلمين، لا بد أن يعالج على طريقة الغربيين، ولكن تحت مظلة باهتة من مفهومهم عن الإسلام».

فالمدرسة العصرانية الحديثة، قد تأثر بها كثير من رموز الحركات الاسلامية المعاصرة، بحس ظن وغفلة من بعضهم، مما يجعل كشف شبهاتهم والرد عليها، بمثابة الرد عليهم جميعاً.

وكثير منهم يريدون أو يراد منهم أن يزعزعوا ثوابت الإسلام وقواطع أدلَّته والشك في صحة فهم الصحابة وحجيته والتشكيك في موثوقية علماء الإسلام. فيقول المستشرق (جون تاكلي): «يجب أن يستخدم كتابهم -وهو أمضى سلاح في الإسلام- ضد الإسلام نفسه؛ لنقضي عليه تماما. يجب أن نري هؤلاء الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا».

ويقول المبشر الأمريكي (جب): «إن الإسلام مبنيّ على الأحاديث أكثر مما هو مبني على القرآن الكريم، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شيء، وصار شبه صبيرة طومسون، وطومسون هذا رجل أمريكي، جاء إلى لبنان فقدمت له صبيرة فحاول أن ينقيها من البذر، فلما نقى منها كل بذرها لم يبق في يده منها شيء».

ويقول (بنروز): «إن المبشِّرين يمكن أن يكونوا قد خابوا في هدفهم المباشر، وهو تنصير المسلمين جماعات جماعات، إلا أنهم قد أحدثوا بينهم آثار نهضة” إلى أن قال: “ولقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصير سورية ولبنان».

ومن أجل ذلك قنع هؤلاء المبشرون أن يكون عملهم «الإنساني» قاصرًا على زعزعة عقيدة المسلمين والتشكيك في الثوابت والقواطع الشرعية؛ ولذا اندفع المستشرقون إلى هذا المنحى، وكان أول مستشرق قام بمحاولة التشكيك في السنة ومسائلها هو اليهودي (جولد تسيهر) الذي يعده المستشرقون أستاذهم في السنة، يقول عنه (بفانموللر): «وبالأحرى كان (جولد تسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني، فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام».

وبعدها توالت توصيات أعداء الإسلام على ضرورة إظهار هؤلاء على أنهم هم الإسلام الصحيح، وأهمية إتاحة المنابر لهم.

***

أما بعد: فهذه عدة مباحث حول ذلك أحببت أن أشارك بها، الموضوع المتجدد الذي يخطف الشباب المسلم ببريقه، لا سيما في هذا الزمن الذي تعاظم فيه دور هذا العقل المخلوق، وتنوعت إنجازاته، فأصبح الحديث عنه وعن نظرة الإسلام له من المهمات للباحث المسلم .

فالافتتان بهذا العقل قد طغت عند طائفة من الشباب الذين كانوا يسلكون درب الهدى والاعتدال، ثم انحرفوا مع هذه الفتنة الطارئة على بلادنا، معتقدين في عقولهم الاعتقادات الخاطئة ومضخمين لدورها في سَوْقهم نحو الجادة والطريق القويم على حساب النصوص الشرعية .

وليُعلم أنني في هذا البحث عالةً على من هم أعلم مني وأجلد على البحث والنظر من أهل السنة، وأسال الله أن ينفع بهذه الرسالة من قرأها، وأن يجعلها سلاحاً بيد أهل السنة في صولاتهم المتكررة مع العقلانيين وأذنابهم في هذا الزمان. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

أبو عبد الله علي خان